أول بطريرك في التاريخ يحمل كارنيه نقابة الصحفيين .. أسرار موهبة قداسة البابا شنودة الصحفية لا يعرفها الكثيرين

يظل اسم قداسة البابا شنودة الثالث محفورًا في الذاكرة الوطنية والدينية والثقافية المصرية، ليس فقط باعتباره البابا الـ116 للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، بل كأحد الرموز الوطنية والفكرية الذين تركوا بصمة استثنائية في مختلف مجالات الحياة. فقد كان أول بطريرك يحمل عضوية نقابة الصحفيين، وأحد القلائل الذين جمعوا بين الدور الديني العميق والعمل الصحفي والفكري المؤثر، مما جعله نموذجًا فريدًا لرجل الدين المثقف صاحب المواقف الوطنية المشرفة.

 

من الصحافة إلى البطريركية.. مسيرة فكرية وإنسانية نادرة

 

بدأت علاقة البابا شنودة الثالث، واسمه قبل الرهبنة “نظير جيد”، بعالم الصحافة عام 1947، عندما شارك في إصدار العدد الأول من مجلة “مدارس الأحد”، التي لعبت دورًا كبيرًا في تطوير التعليم الكنسي وبناء الوعي الديني لدى الشباب. لم يقتصر دوره على الكتابة فحسب، بل سرعان ما أصبح محررًا ثم مديرًا، وتدرج حتى شغل منصب رئيس تحرير المجلة حتى عام 1954.

في تلك المرحلة، كان يجمع بين العمل الصحفي والدراسة الأكاديمية، حيث كان يدرس علم الآثار في دراساته العليا، إلى جانب تفوقه في كلية الآداب – قسم التاريخ – التي تخرج فيها بتقدير ممتاز، وكان من المتفوقين في دراسة التاريخ الفرعوني والإسلامي.

كارنية عضوية البابا شنودة بنقابة الصحفيين

عضوية نقابة الصحفيين.. تكريم وطني للكاتب قبل أن يصبح بطريركًا

 

في عام 1966، حصل “الأنبا شنودة” – بعد ترهبه – على عضوية نقابة الصحفيين المصرية، كأول رجل دين مسيحي يحصل على هذا التكريم. جاء منحه العضوية رقم (156) تقديرًا لدوره البارز في العمل الصحفي، وخصوصًا من خلال رئاسته لتحرير مجلتي “مدارس الأحد” و”الكرازة”، فضلًا عن مقالاته المتنوعة التي نشرت في صحيفة “وطني”، والتي عكست وعيًا فكريًا وروحيًا وقوميًا لافتًا.

وتُعد هذه العضوية شرفية، نظرًا لكونه رجل دين لا يمارس العمل الصحفي كمهنة يومية، لكنها جسّدت اعترافًا رسميًا بقيمة كتاباته وتأثيرها على المجتمع، خاصة في الملفات الدينية والوطنية.

 

محاضرة تحولت إلى تظاهرة وطنية.. موقف مشرف تجاه القضية الفلسطينية

 

في العام ذاته الذي حصل فيه على عضوية النقابة، تمت دعوته لإلقاء محاضرة بعنوان “إسرائيل في المسيحية”، داخل نقابة الصحفيين. ولكن ما بدأ كمحاضرة فكرية تحول إلى مؤتمر جماهيري كبير شارك فيه أكثر من 12 ألف مواطن، عبّروا عن تضامنهم مع القضية الفلسطينية ورفضهم للتطبيع. وكانت مواقف البابا شنودة تجاه إسرائيل واضحة وصريحة منذ ذلك الحين، واستمرت حتى رفضه زيارة القدس إلا بصحبة المسلمين.

 

150 مقالًا و25 قصيدة.. فكر إصلاحي وروح شاعرية

 

كتب البابا شنودة أكثر من 150 مقالًا صحفيًا عبر مجلة “مدارس الأحد”، بالإضافة إلى 25 قصيدة شعرية، تناول فيها قضايا الإصلاح الكنسي، والتحديات الروحية التي تواجه الشباب، وأهمية تطوير العمل الكنسي والتربوي. وكانت مقالاته تحت عنوان “انطلاق الروح” من أبرز كتاباته، وقد حظيت بانتشار واسع، ما شجّعه على إصدارها في كتاب منفصل، ليبدأ بذلك سلسلة كتبه الشهيرة التي ألهمت أجيالًا من المسيحيين في مصر وخارجها.

من التعليم إلى البطريركية.. رحلة الرهبنة والمجد الروحي

 

رسمه البابا كيرلس السادس أسقفًا للتعليم والمعاهد الدينية عام 1962، ليصبح أول أسقف في تاريخ الكنيسة يُخصَّص لهذا الدور. وحمل اسم “الأنبا شنودة”، وكان في الوقت نفسه عميدًا للكلية الإكليريكية. وقد أظهر منذ تلك المرحلة قدرة فكرية وروحية متميزة في خدمة التعليم الديني، وبناء الكوادر الكنسية الشابة.

وفي عام 1971، تم اختياره بطريركًا للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ليبدأ مرحلة جديدة من العطاء الوطني والديني، استمرت لأربعة عقود، واجه خلالها تحديات جسام أبرزها الحفاظ على وحدة الكنيسة، والدفاع عن حقوق الأقباط، مع التمسك بالوحدة الوطنية والمواقف الوطنية الثابتة.

تكريم عالمي وتقدير شعبي واسع

 

حظي البابا شنودة خلال حياته وبعد وفاته، بتكريم واسع من رؤساء وزعماء العالم، واعتُبر رمزًا مشرفًا لمصر أمام العالم. كما كان حريصًا دائمًا على تأكيد وحدة الشعب المصري، بقوله الشهير: “مصر ليس وطنًا نعيش فيه، بل وطن يعيش فينا”.

وفي ذكرى وفاته، يتوافد الآلاف إلى الكنائس وخاصة بمحافظة المنيا، للمشاركة في قداسات تذكارية، إحياءً لذكراه، التي لا تزال حاضرة في الوجدان المصري، وتُجسِّد نموذجًا للقيادة الدينية المتنورة والمواقف الإنسانية النبيلة.

 

close