الذكاء الاصطناعي والتعليم

في سياق التفكير العميق في سُبل تنمية القدرات البشرية من خلال التعليم، يأتي الذكاء الاصطناعي ليعيد رسم ملامح المستقبل، وهو ما يضعنا أمام ضرورات استراتيجية علينا واجب التعامل معها بحكمة تتماشى مع تطلعاتنا الوطنية ومكانة دولتنا العالمية في مجال الريادة والابتكار. ومن هذا المنطلق، تبرز أمامنا بوضوح أهمية دمج الذكاء الاصطناعي في التعليم، ليس باعتباره مجرد توجه عالمي، بل كخيار وطني مُلِح يمكننا من إعداد الأجيال الشابة لمستقبل يتغير بوتيرة متسارعة.الذكاء الاصطناعي ليس خيارًا… بل ضرورة وطنيةفي دولة الإمارات، لا يُعد تبنّي الذكاء الاصطناعي وتطويره مسألة اختيارية، بل يُمثّل ركيزة أساسية في رسم ملامح المستقبل الوطني. فهو يُسهم بفاعلية في دفع عجلة النمو الاقتصادي، وتعزيز مسارات التنمية المستدامة، وتنمية القدرات الفردية على نحو ملموس. فبالنسبة لدولة تتبنّى رؤية مستقبلية طموحة وريادة عالمية في شتى المجالات، يُوفّر الذكاء الاصطناعي أداة استراتيجية لتمكين المواهب، وتسريع الابتكار، وصون المكتسبات الوطنية التي تحققت خلال الخمسين عامًا الماضية، بينما نتقدّم بثبات نحو مئوية الاتحاد برؤية أكثر طموحًا ووعيًا بالتحديات المستقبلية.وهنا لابد من الإشارة إلى حقيقتين واضحتين:1. إن جودة واستدامة التقدّم الوطني تعتمد بشكل أساسي على القدرات البشرية.2. التعليم هو أداتنا الأساسية في تنمية هذه القدرات وتعزيزها.ومع ذلك، فإن هذا الطرح يُبرز معضلة جوهرية، تتعلق بكيفية الموازنة بين الإلحاح الاستراتيجي لتبنّي الذكاء الاصطناعي، وبين المسؤولية التنموية المتمثّلة في إعداد الإنسان القادر على التعامل معه بوعي وكفاءة.الموازنة بين الإلحاح الاستراتيجي والمسؤولية التنمويةفي الوقت الذي يُفهم فيه الدافع إلى الإسراع في دمج الذكاء الاصطناعي في التعليم، إلا أن هذا الإلحاح غالبًا ما يتجاوز سؤالًا أكثر جوهرية وهو: كيف نُنمِّي القدرات البشرية اللازمة لاستخدام الذكاء الاصطناعي بذكاء، وكفاءة، ومسؤولية أخلاقية؟ فالذكاء الاصطناعي يختلف من حيث الجوهر عن التحولات التكنولوجية السابقة، ما يستدعي استجابة فريدة توازي عمق هذا التحول.الدروس المستفادة من التحولات التكنولوجية السابقةعندما ننظر في التحولات التكنولوجية السابقة، فإن ذلك يمنحنا سياقًا مهمًا لفهم المرحلة الحالية. فقد أدى ظهور الإنترنت إلى توسيع الفرص التعليمية بشكل غير مسبوق، من خلال إتاحة الوصول الفوري إلى المعرفة. وعلى الرغم مما أحدثه ذلك من تحسينات في الكفاءة، وتعزيز جودة الدروس، وتسريع وصول الطلبة إلى مصادر معرفية موثوقة، وتبسيط العمليات المدرسية، إلا أن النموذج التعليمي الجوهري ظلّ إلى حدّ كبير على حاله.ومع دخولنا عصر تكنولوجيا التعليم (EdTech)، تطوّر هذا المسار بشكل أعمق، حيث ظهرت أدوات رقمية عديدة وتقنيات جديدة ساعدت في جعل التعليم أكثر تخصيصًا، وأكثر تنوعًا من حيث المحتوى، وأكثر اعتمادًا على البيانات. إلا أن جائحة كوفيد-19 كشفت بوضوح عن القيمة التي لا يمكن الاستعاضة عنها للتفاعل البشري، مؤكدةً على الحدود الفعلية للحلول الرقمية البحتة.ومع قدوم وسائل التواصل الاجتماعي، وما أحدثته من تحول هيكلي أعمق، إذ غيّرت طبيعة التواصل لتصبح قائمة على إنتاج مستمر، تطلّب هذا التحول من الأنظمة التعليمية أن تتطور على مستوى البنية، من خلال تعزيز التركيز على مهارات التفكير النقدي.واليوم، فإن الذكاء الاصطناعي يمثّل أعمق تحول شهدناه حتى الآن. فهو، بخلاف التقنيات السابقة، يحاكي جوانب من الإدراك البشري واتخاذ القرار، ويقدّم إجابات فورية دون الحاجة إلى طرح أسئلة واضحة. لذا فإن هذا الواقع يفرض علينا إعادة التفكير بصورة جذرية، لا تقتصر على التكيّف مع التكنولوجيا، بل تتطلب إعادة تعريف جوهر عملية التعلم، وتحديد كيف يمكننا حماية المهارات الإنسانية الأساسية.لقد علّمنا عصر تكنولوجيا التعليم (EdTech) دروسًا بالغة الأهمية. فعلى الرغم من أن المنصات الرقمية استُحدثت بهدف تخصيص تجربة التعلم، إلا أنها كشفت لنا كذلك عن تحديات من أبرزها:■ فرض تبنّي الأدوات الرقمية دون وجود مبررات تربوية واضحة.■ إرهاق المعلمين بسبب متطلبات الدمج التكنولوجي المكثّف.■ تفاعل الطلبة دون وضوح في الهدف أو الجدوى التعليمية.■ إهمال المهارات الأساسية مثل القراءة والكتابة والتفكير المنطقي.لذا لا بدّ لنا اليوم من معالجة هذه التحديات فالذكاء الاصطناعي لا ينبغي أن يُضاف كطبقة جديدة على المنظومة التعليمية، بل يجب أن يكون إدخاله استراتيجياً، وفي التوقيت المناسب، ومرتبطًا بهدف تربوي واضح ومتكامل.توضيح أدوار الذكاء الاصطناعي في التعليملكي نمضي قدمًا على أسس واضحة، من الضروري تمييز الأدوار المحددة التي يمكن أن يؤديها الذكاء الاصطناعي في التعليم، ومن بينها:1. الذكاء الاصطناعي كأداة يستخدمها الطلبة والمعلمون:■ دور ظاهر ومباشر، إذ يتطلب إتقان المهارات الأساسية أولًا، إلى جانب تحولات كبيرة في أساليب التدريس التقليدية.2. الذكاء الاصطناعي كأداة تعليمية للطلبة والمعلمين:■ يتطلب تنمية الوعي بأساسيات الذكاء الاصطناعي، من حيث متى وكيف ولماذا يُستخدم، مع فهم حدوده وتحفظاته وتحيّزاته المحتملة.3. تطوير الذكاء الاصطناعي:■ يتمثل في إعداد جيل من المطورين المستقبليين القادرين على برمجة وتطوير أدوات الذكاء الاصطناعي، مزوّدين بالكفاءة التقنية والوعي الأخلاقي.4. الذكاء الاصطناعي لدعم العمليات التعليمية والإدارية:■ يشمل استخدام الذكاء الاصطناعي في إدارة المدارس وصنع السياسات التعليمية، بغض النظر عن التحول التربوي.إن تحديد هذه الأدوار بوضوح هو ما يضمن أن يكون اعتماد الذكاء الاصطناعي في التعليم مقصودًا وفعّالًا، لا مجرد تطبيق عام يفتقر إلى التوجيه.البدء ببناء الوعي بالذكاء الاصطناعيقبل الشروع في أي عملية دمج واسعة النطاق، يجب أن تكون الأولوية لبناء الوعي بأساسيات الذكاء الاصطناعي لدى الطلبة والمعلمين وأولياء الأمور على حد سواء. فنحن بحاجة إلى فهم جماعي مشترك يشمل:■ كيفية عمل أدوات الذكاء الاصطناعي وآلية تدريبها.■ التحيّزات المحتملة والتحديات الأخلاقية المرتبطة بها.■ الاستخدام الآمن، والناقد، والفعّال لهذه الأدوات.■ الطرق التي يمكن من خلالها توظيف الذكاء الاصطناعي لتعزيز المهارات البشرية والإنتاجية.فمن دون هذا الوعي التأسيسي، فإننا نخاطر بإعداد مستهلكين سلبيين للتقنية، بدلاً من مشاركين فاعلين ومتمكنين في صياغة مستقبلها.أولوية بناء القدرات البشريةرغم أن الذكاء الاصطناعي يعزّز النظم التعليمية ويدعم كفاءتها، إلا أنه لا يمكن أن يحل محلّ الحكم البشري، أو القيم، أو القدرة على اتخاذ القرار في ظل الغموض والتعقيد. فمثل هذه السمات الإنسانية تبقى ضرورية لقيادة ناجحة، ومواطَنة مسؤولة، وابتكار مستدام في عصر الذكاء الاصطناعي.وإذا ما تمّ إدخال الذكاء الاصطناعي بشكل متسرّع، فإننا نخاطر بالمقايضة بين الإمكانات البشرية طويلة الأمد، والكفاءة قصيرة المدى. لذلك، يجب أن يبقى تركيزنا موجّهًا نحو الإنسان أولًا، مع ضمان تفاعل هادف وواعي مع الذكاء الاصطناعي، لا مجرد توظيف تقني سطحي.لذا فإن إعداد الطلبة لعالم يتركّز حول الذكاء الاصطناعي يتطلب تحوّلًا جذريًا في التفكير، لا مجرد تعديلات هامشية. حيث يشمل هذا التحوّل:■ تحديد واضح للمهارات والقيم الأساسية اللازمة لتحقيق النجاح في المستقبل.■  تصميم نظم تعليمية مرنة وقابلة للتكيف، تدمج الذكاء الاصطناعي بطريقة استراتيجية ومدروسة.كما يجب أن يتمتع التعليم بالقدرة على الصمود والتكيّف، لكي يتمكّن من الاستجابة للتحديات غير المتوقعة، وتمكين الطلبة من المهارات المتطورة التي يحتاجون إليها في اقتصاد الغد.الخطوة التالية: إلى أين نمضي؟تُعدّ هذه الرؤى نقطة انطلاق، تُوجّه المرحلة المقبلة من رحلتنا التعليمية نحو مستقبل أكثر وعيًا وتخطيطًا. ولكي نمضي قدمًا، فإننا بحاجة إلى:■ تعزيز المهارات الأساسية بعمق داخل نظامنا التعليمي.■ تدريس الذكاء الاصطناعي بصورة شاملة ومتوازنة، تبرز منافعه وتحدياته.■ تحويل الممارسات التربوية بالتعاون مع المعلمين.■ دعم ورعاية مطوري الذكاء الاصطناعي من الأجيال الصاعدة.■ دمج الذكاء الاصطناعي في العمليات التعليمية والإدارية، لتحسين الكفاءة دون الإخلال بالرؤية التربوية الأشمل.■ وقبل كل شيء، إعادة توجيه التعليم ليتمحور حول احتياجات الإنسان، لا حول إمكانات التقنية فحسب.إن هذا التوجه لا يُمثّل مقاومة للتغيير، بل هو تبنٍّ واعٍ له، وتوجيهه نحو ما هو أكثر أهمية وجوهرية. ففي خضم هذا التسارع التكنولوجي، علينا أن نضمن أن يظلّ نموّنا متمركزًا حول الإنسان.دعونا نُجدّد التزامنا تجاه المتعلّم، ونُوضّح له مساره، ونبني نظامًا تعليميًا لا يكتفي بأن يكون أكثر ذكاءً، بل أن يكون أكثر حكمة في جوهره.

close