لم يتلقَ والد وعم الشاب كايدن يوتشا أي تعليم جامعي لكنهما يشتغلان، كما أنه يستبعد أن يلتحق أي من زملائه الذكور بالجامعة بعدما يتخرّجون العام المقبل من مدرستهم الثانوية في مدينة ماديسون المشاطئة لبحيرة إري وتبعد نحو 45 دقيقة إلى الشرق من كليفلاند بولاية أوهايو.
أما يوتشا، فلم يخطر له متابعة تعليمه إلا مرة واحدة، حين اعتقد لفترة وجيزة أن الشهادة الجامعية قد تساعده على التقدم مهنياً في مجال الإطفاء. لكنه سرعان ما صرف النظر عنها، بعدما أدرك أنها ستضيف أعباءً مالية إلى ميزانيته المتواضعة بدل أن تجلب له دخلاً.
بعدما طوى صفحة الجامعة، وجد الشاب الذي بلغ من العمر 18 عاماً، فرصة عمل بدوام كامل في ورشة متخصصة بإصلاح السيارات المتضرّرة من الحوادث وتعديل مظهرها الخارجي، قال إنه سيتقاضى منها أجراً “مجزياً” يبلغ 15 دولاراً في الساعة. وقد بدأ بالفعل بتوفير المال لشراء سيارة أحلامه من نوع “سيون FR-S” طراز 2013.
عزوف يتنامى
يوتشا كان يسوّي انبعاجات في هيكل سيارة “كرايسلر” بيضاء في مدرسة مهنية يتلقى فيها دروساً مسائية في إصلاح أضرار الحوادث، وقال: “قد لا يبدو المبلغ كبيراً، لكنني حسبت فوجدت أنني سأكسب أكثر من ألف دولار كل أسبوعين، وهذا لا بأس به لشخص تخرّج لتوّه من المدرسة الثانوية… يبدو أن الجامعة ستكلّف مالاً كثيراً، فيما يمكنني الحصول على التعليم نفسه مجاناً”.
لكن، هل يعرف يوتشا أناساً أتمّوا تعليمهم الجامعي؟ إن والدته خريجة جامعية، وكذلك خالتاه، وحتى صديقته تخطط لدراسة التمريض. أما الرجال من أقاربه ومعارفه، فلا أحد منهم التحق بالتعليم العالي. يعكس ذلك توجهاً متنامياً في أنحاء الولايات المتحدة، حيث يشكّل الذكور غالبية الطلاب الذين يتوقفون عن الدراسة بعد التخرّج من الثانوية. ويبدو هذا التراجع الحاد في التحاق الشبان بالجامعات أوضح هنا، في مقاطعة لايك.
في هذا الجزء من منطقة الغرب الأوسط الأميركي، حيث يبلغ أوسط دخل الأسر نحو 78000 دولار وأكبر مدنه يقطنها 47 ألف نسمة، انخفضت نسبة الشبان بين 18 و24 عاماً الملتحقين بالجامعة بأكثر من 15 نقطة مئوية خلال العقد المنتهي في 2023، وهو أكبر تراجع بين المقاطعات الكبرى في الولايات المتحدة. للمقارنة، بلغ متوسط التراجع على المستوى الوطني نحو 3 نقاط مئوية. في 2013، كان نصف شبان مقاطعة لايك مسجّلين في الجامعات، أما بعد عشر سنوات، أصبحت النسبة واحداً من كل ثلاثة، وفقاً لتحليل بلومبرغ بزنيسويك الذي استند إلى بيانات مكتب الإحصاء الأميركي.
ليس عزوف الرجال عن التعليم الجامعي ظاهرةً مستجدةً، فالنساء يتفوّقن عدداً في معدلات الالتحاق بالجامعات منذ نحو أربعة عقود، فيما تواصل الفجوة بين الجنسين اتساعها. أظهرت بيانات من مركز “بيو” للأبحاث، أن قرابة نصف النساء بين سن 25 و34 عاماً يحملن درجة بكالوريوس، مقابل 37% فقط من الرجال. وخلال الفترة بين 2011 و2022، انخفض عدد الأميركيين الملتحقين بالجامعات بمقدار 1.2 مليون طالب، وكان عزوف الرجال معظم السبب وراء هذا التراجع.
اقرأ أيضاً: لا أحد يسأل الرؤساء التنفيذيين البارزين عن أسماء الجامعات التي ارتادوها
تجنب الكلفة الباهظة
ومع تزايد هذه الظاهرة بين رجال الولايات المتحدة، أصيبت هذه الفئة الديموغرافية بانتكاسات على صعد أخرى أيضاً. فالرجال من الطبقة العاملة اليوم أقلّ حضوراً في سوق العمل مما كانوا عليه قبل أربعة عقود، فيما بقيت أجورهم، بعد احتساب التضخم، شبه ثابتة لأكثر من خمسين عاماً. كما تراجعت معدلات الزواج والإنجاب لدى هذه الفئة، ويشير عدد متزايد منهم إلى افتقارهم لأصدقاء مقربين.
كما أن الرجال أكثر عرضةً للانتحار بمعدل يبلغ أربعة أضعاف عدد النساء ذوات الميل نحو قتل النفس. بيّن تقرير من مجموعة “أسبن إيكونوميك ستراتيجي” (Aspen Economic Strategy Group)، أمضى الرجال بين سن 18 و30 عاماً ما معدله 6.6 ساعات يومياً بمفردهم خلال 2023، وذلك دون احتساب وقت النوم، أي بزيادة نسبتها 18% عن 2019، وبما يزيد بأكثر من ساعة عن المعدل المسجّل بين النسوة.
مع اتساع هذه الفجوة، تناولت مقالات ودراسات بحثية كثيرة كيف خيّبت الولايات المتحدة آمال فتيانها ورجالها. صحيح أن هذا التراجع لا يُعزى بالكامل إلى التعليم العالي، لكنه دون شك أحد العوامل الرئيسية. إذ تُظهر البيانات الإحصائية أن الرجال الحاصلين على درجة بكالوريوس أو أعلى يجنون دخلاً يزيد بنحو 200% مقارنة مع من لم يتلقوا تعليماً جامعياً. فقد لا يشتري المال السعادة، لكنه بلا شك يوفّر قدراً أكبر من الاستقرار المادي.
ما الذي يدفع إذاً هذا العدد الكبير من الفتيان إلى العزوف عن الالتحاق بالجامعات؟ يعزو كثيرون السبب الرئيسي إلى التكاليف الباهظة. قد تصل الكلفة في الجامعات العريقة إلى نحو 100000 دولار سنوياً، ويكلف التعليم العام المدعوم من الولايات نحو 25000 دولار سنوياً، بحسب بيانات “كوليدج بورد”.
رغم أن هذه الأعباء المالية تُثقل كاهل النساء والفتيات من ذوي الدخل المحدود أيضاً، فإن الفتيان ينشؤون في الغالب- عن وعي أو من دونه- على أن الأولوية هي للبدء بكسب المال في أقرب وقت ممكن.
هذا ما تلاحظه المعلّمة ريتا سودر في صف “التدريب المهني” الذي تُدرّسه في مدرسة بيري الثانوية بمقاطعة لايك، حيث لا يعتزم سوى واحد أو اثنين من أصل أربعة فتيان في الصف الثاني عشر الالتحاق بالجامعة. ويفضل الآخرون دخول سوق العمل مباشرةً على أمل تحقيق انطلاقة مبكرة نحو الاستقلال المالي وتفادياً للوقوع في عبء القروض الجامعية.