(الناس أعداء ما جهلوا)رمضان.. الشهر الكريم يأتي إلينا كل عام ويذهب. ثم يعود كل عام. يحل هلاله في الأعالي. يحضر من بعيد سمحاً في صفاء وجلال. يشعر المواطن حياله بالبهجة والامتنان. يفرح بمقدمه. يشرع في الصيام ويداوم الصلاة والزكاة. ينتظر لحظة الغروب في شوق. يؤدي التراويح والتهجد على أحسن وجه ويبدو هذا المواطن في كل الأماكن مثل رمضان مباركاً جميلاً تقياً. يبدو شيئاً آخر يختلف عن باقي أيام الموسم.في رمضان عندنا تبتهج المدن والضواحي والقرى والأرياف وتصفق لقدومه وتفتح أذرعتها له هاشة باشة وتضحك ملء الفم. كل الشوارع. كل الأزقة الأمامية والخلفية. القريبة والبعيدة. كل الدروب. رمضان يحتوي الجميع برحمته وحنانه. يعطي دروساً سنوية في التسامح والتقارب. وعندما يرحل نهاية الشهر تمضي معه عوامل تلك البهجة وتطير ومعها ترحل أيضاً صور الدفء والتعاطف الذي يبقى لمدة شهر بأيامه ولياليه. رمضان لدى البسطاء المباركين مثله يختلف عن رمضانات أخرى تبدو في حقول الشوك وخلف الأسوار.خلال شهر كامل قد ينقص يوماً فقط تصير الدنيا الواسعة العريضة رمضان. تغمرها الأنوار والروحانيات التي لا يعرفها شهر سواه. حين يحل هذا الرمضان المبارك ترافقه تقاليد ومراسم وعادات التصقت بشخصه.. ولم تفارقه. تردد الألسن بركاته وأنسه وألفته ووقاره المهيب. البعض ينزعج. البعض لا تتوقف بهجته. البعض يعانقه. البعض يسر لهلاله الفضي في السماء. البعض يعطيه أبعاداً كثيرة تتجاوز مفهوماته البسيطة المؤثرة في معناها والكبيرة في تفاصيلها. يعتبرونه من الأشهر الحرم. يجمعونه مع الأربع الأخرى المتعارف عليها عند القوم كلهم. رمضان ليس كذلك. ليس من الأشهر تلك. وقع فيه قتال في بدر وفتحت مكة. لكن لقدسيته منذ أيام بالغة في القدم اعتبروه كذلك. لكنه في كل الأحوال والظروف يظل شهراً تحترمه البشرية التي تحتاج إلى محطات للمراجعة والتأمل وكبح الجماح والتراجع عن الكثير من الذنوب والمعاصي والخطايا. شهر ارتبط بالصيام والإمساك عن المخالفات والتعبد والاعتكاف.العرب في قدمها ربطته بالرمضاء والأيام الحارة في الهجير. وهو في تفاصيل الرسالات الخالدة عنوان للإيمان الخالص والتقوى. ووالدة المسيح الكريم نذرت للرحمن صوماً بعد أن فاجأها المخاض تحت النخلة وأشارت إليه لكي يكلم قومها في مهده الوقور ويحسم كل الظنون والشكوك. الصوم كان حجة ودلالة روحية في كل الأوقات. النساك والمتصوفون والمصلحون والدراويش والأتقياء الذين ينعزلون ويقتربون من الله.. كان دليلهم الصيام لتحقيق أمانيهم الروحية وتطلعاتهم الشفافة. الصوم إشارة روحية إلى الآخرين.. الصوم رسالة يؤديها المخلصون العابدون الذين يدركون بأن لا فرق بين الناس عند الخالق إلا بالتقوى. الأنبياء أصحاب الرسالات التي نهضوا بها لانتشال أقوامهم المعاندين والمكابرين من دوامات الغل والحقد والضغائن والتخلف.. كان الصيام أحد أركان دعواتهم. ثم ختمته الرسالات بفرضه على المسلمين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. الصوم مقاومة عجيبة للانكسار والذل والشهوة. الصوم صبر على المكاره والعذابات. الصوم يشعر بإحساسه العميق أولياء الله المجيد وخلفاؤه في الأرض يعمرونها بالهدى والسمو. ذلك مجمل الصيام الحقيقي الذي ينجح في تقديم نفسه في رمضان وغيره من الأيام المهيبة في صورة متناهية التواضع والبساطة ودون اللجوء إلى مظاهر الزيف والنفاق. الصوم لم يكن صورة مغايرة للإيمان البالغ البساطة من الداخل والخارج في جوهر الإنسان ودوره في الحياة.ومع مرور الزمن بتعقيداته غلبت أشكال ذلك الزيف على بساطة العبادة ووقارها دون مغالاة. شوهت الصورة السليمة للصيام البسيط النظيف. وحرقت إطارها وجعلتها سوداء لا بياض فيها. لا بساطة. لا عفوية. بل تعددت الألوان فيها واختلط الرديء بالجيد. صار رمضان الجديد يختلف عن سابقه السمح الكريم المتوهج بالعطاء والنبل والتقارب. صار سوقاً للغش وحصار الإنسان البسيط في معيشته والتضييق عليه مثل ديناصور مخيف. صار فرصة للمنافقين ونهازي الفرص وسماسرة مواسم الكذب والدلالة في الأسواق والساحات. صار رمضان مذبحة يخشاها البسطاء والمتعبون. صار لازمة للمتنفذين وأصحاب المصالح والسراق يهتبلون مقدم رمضان الجليل بتكرار الأغاني والتسويق والإعلانات المغرية عن الأطعمة والمآدب وصنع المسلسلات وخبط الصفقات واستغلال أداء العمرة في الأماكن المقدسة التي كتب في رحابها وفرض الصوم على العباد البسطاء الأتقياء. وغير ذلك من مظاهر وصور يستغلها الأفاقون في كل مكان على وجه الأرض تشويهاً لرمضان وتلطيخا للباسه الأبيض الجميل.رمضان هذا لا يعني البسطاء في حقول الشوك. لا يعني الفقراء وأصحاب الهموم الذين من المفترض أن تشملهم أحاسيس الآخرين في هذا الشهر العظيم. رمضان هذا الذي يعود بمسلسلاته وبمظاهره الكاذبة المغرقة في تزييف الواقع. رمضان هذا ليس رمضان الناس الحقيقيين الذين يغمرهم الهدوء والبعد والعزلة عما يسود الشهر من تكرار رتيب في الاستغلال والحصار. رمضان هذا الديناصور الذي نشهده يغرف كل شيء في طريقه يختلف عن رمضانات الأتقياء الذين لا يتذوقون أطعمة الكبار ولا يعرفون نفاقهم وغرورهم. رمضان البسطاء يتمثل في البساطة ذاتها. في التواضع. في كسر النفس أمام غاياتها الخبيثة. في الخضوع لله الواحد. في التراحم الحقيقي والتقارب الأصيل الذي ينطلق مع الفجر ويهبط عند حلول لحظة الغروب ويستمر في توهج الليالي كأنها نهار.تغيب المعاني النبيلة للصوم الحقيقي كما أراده الله الخالق. تطل مع قدومه كل عام حكايات وقصص وصفقات ومناظر مؤذية ويصبح الصوم غير متسق مع الأصل. تطغى معالم النفاق. الصيام ليس حقيقياً عند الكثيرين. لا يؤدي رسالة. لا يحقق غايته المرجوة. لا يصل إلى هدف. أفرغ من محتواه وظل لا زمة للإعلانات والأطعمة والأعمال الفنية التافهة التي تحز قلوب البسطاء في رمضان الجليل الكريم.ويا سيدنا رمضان الآتي بعد يومين مباركاً جليلاً يطوي المسافات ويمده يده البسيطة الحانية إلينا لكي يعلمنا البساطة والقناعة والصبر والشجاعة أيضا في مواجهة أنفسنا.. يا سيدنا رمضان السمح في كل لحظاته ومعانيه الجميلة.. يا سيدنا رمضان نحن بهذا الشكل ونحن في انتظارك.. لسنا كما تتوقع في خاطرك العظيم.. نحن نجيد المظاهر في استقبالك.. ثم نلعنك ونحملك كل أسباب الضيق والحزن والكسل والخواء الذي يعترينا طوال أيامك. يا سيدنا رمضان نحن لا نصوم لكننا نبرع في الإمساك ليس غير!!