لا يزال في الذاكرة، عندما دخل إلى مكتبي رجل مع ابنه، وهو يطالب بصوتٍ عالٍ بإنصاف ابنه الذي ظُلم، بحجَّة أنَّ تقدير ابنه في الثانويَّة يؤهِّله لأخذ مقعد في كليَّة الطب، في حين تم إسكانه في إحدى الكليَّات النظريَّة، متِّهمًا المؤسسة التعليميَّة بالمحسوبيَّة، وعدم الأمانة. وبعد مراجعة مستندات الابن، تبيَّن أنَّ تقديره فعلًا يؤهِّله للحصول على مقعد في كليَّة الطب، غير أنَّه تبيَّن من استمارة طلب تحديد التخصُّص أنَّه هو نفسه مَن اختار التخصصَ النظريَّ؛ لأنَّه لا يرغب في الطب، ويرى نفسه في الكليَّة النظريَّة التي اختارها، ولكنَّه أخفى ذلك عن والده؛ خوفًا وذعرًا من ردَّة فعله. معروف أنَّه عندما يتخرج الأبناء في الثانوية العامة بتفوق وامتياز؛ فإن الأهل والمجتمع والأصدقاء والأقارب ينتظرون منهم أن يكونوا أطباء، أو مهندسين، ولو فكر أحدهم في غير ذلك، فإنه سيواجه صدودا، أو -على الأقل- تعجبا واستغرابا، وربما اتهاما بقصر النظر! لستُ مبالغًا، لكنَّ هذه هي الحال، فالتدريس ليست مهنة تلبِّي طموحات الطلبة الممتازين غالبًا، وفي المقابل يدخل الطب مثلًا مَن اشتهاه، ومَن لم يشتهه؛ تلبيةً لضغوط الوالدين والمجتمع، وتكون النتيجة الطبيعيَّة لهذا الضغط هي: الأوائل من خرِّيجي الثانويَّة العامَّة، وهم أصحاب المعدَّلات المرتفعة -النوابغ والمواهب والأذكياء- يذهبُون لكليَّات الطب والهندسة. ونجد أنَّ خرِّيجي الدرجة الثانية في المعدَّّل، يدرسُون في كليَّات إدارة الأعمال، وبعد تخرُّجهم يصبحون مديرين على زملائهم الأذكياء والنوابغ؛ لأنَّ الكليات النظريَّة التي يعزف عنها الأوائل، تؤهِّل للتربُّع على أماكن التأثير الاجتماعيِّ. وأمَّا أصحاب المعدَّلات المتدنِّية -بدرجة مقبول- فهم مَن يذهبُون عادةً إلى كليَّات إعداد المعلِّمين، ويقومُون بعد تخرُّجهم بمهمَّة تعليم طلاب زملائهم الأوائل النابغين؛ والسؤال: كيف سيكون مستوى الخرِّيجين لدينا في النهاية؟ النتيجة النهائيَّة تكون: ضعف مخرجات التعليم العام الذي يقوم عليه معلِّمون لم يسقهم إليه إلَّا ضعف مستوياتهم العلميَّة! بينما المفروض أنَّ الأوائل من خرِّيجي الثانويَّة العامَّة هم مدخلات كليَّات المعلِّمين، والفائض منهم يذهبون إلى الكليَّات الأخرى، وعندها نحصل على مخرجات تعليميَّة عالية الجودة. قبل عقود قرأتُ مقالًا لأحد الكُتَّاب يقول فيه: إنَّه لم يفهم سر نهضة اليابان التي أفاقت بسرعة من صدمة القنبلة النوويَّة التي أُلقيت عليها في نهاية الحرب العالميَّة الثَّانية، واكتسحت العالم بصناعاتها الثقيلة والخفيفة، إلَّا عندما زارها، فوجد اليابانيين يقدِّرون المعلِّم، ويجلُّونه أشد إجلال، ويحترمونه أشد الاحترام، وجد أنَّ كليَّات التربية في اليابان لا تقبل إلَّا النابغين من الطلاب، فانعكس هذا على مستوى التلاميذ اليابانيِّين، وحدثت النهضة اليابانيَّة الحديثة. في أمريكا -على سبيل المثال- لا يمكن أنْ يدخل الطالب في مجال الطب، أو المحاماة وغيرها، إلَّا حامل الشهادة الجامعيَّة أوَّلًا. كم نحن أحوج إلى هذا الواقع! خاصَّة وبلادنا تعيش رُؤية ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -يحفظه الله- التي مضمونها الاعتماد على عطاءات العقل للإنسان السعوديِّ بدلًا من عطاءات الأرض؛ لأنَّ عطاء الأرض محدود، والعقل يُعطي بغير حدود.