افتتاحية: دفعنا ثمن التجهيل… وفرصتنا الآن تطوير التعليم

بالعلم تبنى الأوطان، وترتقي الشعوب، وتشيَّد الحضارات، وتكتب فصول المستقبل. ولا نهضة بلا تعليم، ولا تعليم بلا مناهج تحفز التفكير ولا تكبله، وتفتح مدارك العقل ولا تقيده.ولعل أعظم استثمار يمكن أن تقدمه الدولة إلى أجيالها القادمة هو في التعليم، والمناهج هي رأسماله الثمين، الذي سيجني الوطن منه عوائد كثيرة لا تعد ولا تحصى.نقول هذا، انطلاقاً من إيماننا بأن المناهج الدراسية لا تمثل مجرد ركن من أركان تطوير العملية التعليمية، بل هي «الركن الأعظم»، إذ تشكل العقول، وتغرس القيم، وتفتح الآفاق، وهي التي تُعد الكوادر القادرة على الإبداع ومواكبة عالم يزداد تطوراً، نصيبنا منه القليل!ولعل أبرز أزمات التعليم، التي عاناها وطننا الغالي، الصغير في حجمه، الكبير في عطائه، هي أزمة المناهج، بفعل هيمنة تيار الظلام على تشكيلها، خلال «سنوات عجاف»، خضعت خلالها لفكر متشدد شوه روحها، وحوَّلها من مصدر لتغذية العقول إلى صفحات تحفظ دون أن تفهم، ما جعلها أداة للتلقين لا وسيلة للتفكير.إن الكتب التي كان يفترض أن تكون بوابة للمعرفة، تحولت إلى سلاسل من الجمود، وبدلاً من أن تطلق طاقات الطلاب، حبستها، وزرعت في نفوسهم خوف السؤال، ونفور الجواب، و«حرمانية» التفكير.لكن حين اشتد الخناق، لاح أفق الأمل، فقد جاء قرار وزير التربية د. سيد جلال الطبطبائي بتأليف مناهج دراسية جديدة من رياض الأطفال حتى الصف التاسع، خلال خمسة أسابيع، لتطبق رسمياً العام الدراسي المقبل، فبث ذلك القرار روح التفاؤل في نفوس المهتمين بشأن البلد ومستقبله، ومعه نرى أن قطار إصلاح التعليم قد انطلق، ونتمنى ألا يتوقف قبل أن يبلغ غايته.فالقرار ليس مجرد توجيه إداري، بل إعلان حكومي للتغيير وإصلاح التعليم، واعتراف رسمي بأن المناهج كانت أحد معوقات تطويره.
والخطوة، وإن بدت تاريخية في توقيتها، فإنها جريئة في طبيعتها، وملهمة في دوافعها، وتعكس إرادة سياسية صلبة تهدف إلى تعويض سنوات التراجع، وفتح صفحة جديدة تبنى فيها المناهج على أسس علمية ووطنية، تُعيد للمدرسة دورها، وللعقل مكانته.اليوم، ونحن نعيش لحظة فارقة تتجه فيها الدولة لتغيير المناهج في خطوة تحسب لها لا عليها، فإننا أمام فرصة ذهبية لا يصح التفريط فيها، فالتغيير المنشود يجب ألا يكون مجرد تعديل عناوين أو حذف فقرات، بل ينبغي إعادة صياغة فلسفة التعليم برمتها، كما يجب أن تبنى المناهج الجديدة على تعليم الطلاب كيف يتعلمون، لا ماذا يحفظون.ولا نرى عيباً في أن نستلهم من تجارب الدول المتقدمة، فالعاقل من يتعلم من نجاحات غيره، كما يتفادى أخطاءهم، والدول التي سبقتنا في تطوير التعليم يمكن أن تكون مرآة نراجع بها مسارنا ونستفيد من خبراتها.لكن الخطأ كل الخطأ أن نستنسخ مناهجهم «نسخاً ولصقاً»، دون مراعاة لخصوصية مجتمعنا، وهويتنا، واحتياجات أبنائنا، فلكل وطن سياقه الثقافي والتربوي، وما يصلح لغيرنا قد لا يصلح لنا.كما نذكّر اللجنة الوطنية المعنية بتأليف المناهج بضرورة الحفاظ على هوية كل مادة، وعدم إدخال إحداها في الأخرى، فلا يصح تسييس الدين أو أسلمة العلوم في صياغتها، فمادة التربية الإسلامية، على سبيل المثال لا الحصر، وُجِدت لغرس أصول الدين وتعزيز قيم الوسطية والاعتدال، لا لزرع التشدد والتطرف، وهكذا الحال في سائر المواد، فلكل مادة طبيعتها، والأساس في التغيير يجب أن يبنى على تعميق الفهم، وتحقيق التوازن بين الكم والكيف.وما نتمناه حقاً أن يواكب «تغيير المناهج» حوار وطني شامل لإصلاح التعليم، و«الجريدة» على أتم استعداد لمشاركة أفكاره، وتخصيص جميع منصاتها لإنجاحه، على أن يدعى إليه الجميع من معلمين، وخبراء، وأولياء أمور ومختصين، وصحافة وإعلام، بل والطلاب أنفسهم، فإصلاح التعليم لا تكتب وثيقته في أبراج عاجية، بل تصاغ من قلب الواقع وبأدوات المستقبل.الأخ وزير التربية، إن تغيير المناهج الدراسية ليس محطة الختام، بل نقطة البداية لمسار قد يخلد التاريخ فيه اسمك، إن أحسنت التغيير، بعين المصلح وأجريت كل التعديلات المنشودة، وجعلتها بوابة للنهضة والانفتاح، لا وسيلة للتراجع والانغلاق، فهل ستغتنم الفرصة ويسجل التاريخ اسمك في صفحة «الإصلاح»؟ أم تضيعها – لا قدر الله- وتتحمل مسؤولية هدرها، في الصفحة «المقابلة» من التاريخ الذي لا يرحم؟ الجواب عندك، واعلم أن ذاكرة الوطن كما أنها لا تنسى من أصلح فإنها لا تمحو من فرط.ومن حيث بدأنا ننهي، فبالعلم وحده، لا بغيره، تبنى الأوطان، ويكتب المستقبل، وإذا كنا قد دفعنا ثمن التجهيل، فالفرصة الآن تاريخية لتطوير التعليم… فلا تضيعوها.

close