من واشنطن إلى بيروت: كيف تُغيّر هجرة العقول ملامح التعليم العالمي؟

لطالما اعتُبرت الولايات المتحدة الأميركية مركز الثقل العالمي في البحث العلمي والتعليم العالي. شكّلت جامعاتها ومراكز أبحاثها فضاءً جاذباً للعلماء والباحثين من مختلف الجنسيات، مستندة إلى مناخ من الحرية الأكاديمية، والدعم المالي السخي، والبنية التحتية المتطورة. غير أن السنوات الأخيرة كشفت عن تغيرات بنيوية عميقة تُنذر بانحدار تدريجي في هذه المكانة، مع تصاعد موجة “هجرة العقول العكسية”، إذ بدأ كثير من العلماء الأميركيين أو المقيمين فيها بالانتقال إلى دول توفر بيئة أكثر استقراراً ودعماً لمشاريعهم البحثية. في هذا السياق، أجرت “النهار” مقابلة مع الدكتور نزار المهتار، أستاذ مساعد في التربية في جامعة هايكازيان، سلط فيها الضوء على جذور هذه الأزمة وتداعياتها المستقبلية على النظام العالمي لإنتاج المعرفة، مع إضاءة على التشابه المقلق مع ما حدث في لبنان منذ عام 2019، عندما بدأت أزمته الاقتصادية تُفرغ مؤسساته الأكاديمية من الكفاءات.  يؤكد الدكتور المهتار أن ما يجري في الولايات المتحدة لا يمثل مجرد حركة طبيعية في سوق المواهب، بل يعكس تراجعاً مقلقاً في ركائز التفوق العلمي الأميركي . فخروج العلماء لا يعود إلى عوامل فردية فقط، بل إلى اختلالات هيكلية تهدد جوهر الأكاديميا، من التمويل إلى التشريعات، مروراً بسياسات الهجرة، وصولاً إلى اختلال التوازن بين البحث والإدارة في المؤسسات التعليمية. من أبرز الأسباب التي يعددها المهتار: التدخل السياسي المتزايد في شؤون الجامعات، والذي أدى إلى تضييق على حرية التعبير والبحث، وخلق مناخ من الرقابة الذاتية في الحرم الأكاديمي. كذلك يشير إلى الانخفاض الحاد في التمويل الفيدرالي، لا سيما لمؤسسات محورية مثل المعاهد الوطنية للصحة (NIH) والمؤسسة الوطنية للعلوم (NSF)، ما نتج عنه تسريح باحثين، وتقليص المشاريع، بل حتى إغلاق أقسام في جامعات مرموقة.  ويضيف أن سياسات الهجرة الجديدة لعبت دوراً حاسماً في تقليص جاذبية الولايات المتحدة، حيث يواجه العلماء الدوليون عقبات قانونية متزايدة تهدد استقرارهم المهني والشخصي. أما من الناحية المؤسسية، فقد تحوّلت الجامعات الأميركية إلى أنماط توظيف غير دائمة، تعتمد على التعاقدات قصيرة الأجل، ما قلّل من الأمان الوظيفي وأضعف نوعية الإنتاج العلمي، خاصة في صفوف الأساتذة الشباب الذين يشكلون نواة التجديد الأكاديمي.هذه التحديات الداخلية، بحسب المهتار، فتحت المجال أمام صعود بدائل عالمية. إذ أطلق الاتحاد الأوروبي برامج جذب باحثين بميزانية تزيد عن 566 مليون يورو، واستثمرت كندا أكثر من 22 مليار دولار منذ عام 2016 في تطوير البحث العلمي، بينما أصبحت الصين في طليعة الدول من حيث حجم الإنتاج العلمي، مدعومة بمبادرات استراتيجية مثل “خطة الألف موهبة”. هذا التحوّل لا يعكس فقط تغيراً في التموضع البحثي، بل أيضاً في توازن القوى المعرفية على مستوى العالم.  المثير للمفارقة، كما يوضح المهتار، أن ما تعانيه الولايات المتحدة اليوم يشبه إلى حد كبير ما شهدته دول نامية مثل لبنان منذ بدايات أزمته في 2019. فبينما كانت أميركا تنظر آنذاك إلى الهجرة الأكاديمية كرافد لقوتها المعرفية، كان لبنان يعيش نزيفاً حاداً في كفاءاته الأكاديمية والطبية، بسبب الانهيار المالي وغياب الاستقرار المؤسسي. واليوم، تتقاطع المسارات بشكل غير متوقع: الولايات المتحدة تخسر ما كانت تستقطبه، ولبنان يجد فرصة ليكون شريكاً في “تدوير العقول” بدلًا من فقدانها نهائياً.  صورة تعبيريةيؤكد المهتار أن لبنان، رغم أزماته المالية والسياسية الخانقة، يمكن أن يستثمر في هذه اللحظة العالمية إذا اعتمد نهجاً ذكياً يرتكز على مفهوم “تدوير العقول”. ويقترح بناء شراكات مع مؤسسات دولية تتيح للباحثين اللبنانيين في الخارج العمل مع جامعاتهم الأم دون الحاجة إلى العودة الكاملة، مع توفير حوافز بحثية ومهنية جذابة لهم.  ويشدد على أن أي استراتيجية فاعلة يجب أن تبدأ من الداخل، عبر إصلاح منظومة التعليم العالي، وتحرير الجامعات من التسييس والبيروقراطية، وتوفير بيئة بحثية قائمة على الاستقلالية والشفافية، وتحديث آليات التمويل والدعم.  ختاماً، يرى الدكتور المهتار أن ما نشهده اليوم هو تحوّل في خارطة إنتاج وتوزيع المعرفة على المستوى العالمي. هجرة العقول من الولايات المتحدة لم تعد مجرد ظاهرة محلية، بل هي جرس إنذار لنظام تعليمي عالمي يحتاج إلى إعادة هيكلة جذرية. في هذا الإطار، يصبح التعاون الدولي، وتكافؤ الفرص، وبناء بيئة معرفية مرنة وشاملة، من أولويات المرحلة المقبلة لكل من يسعى إلى مستقبل معرفي مستدام. 

close