كيف كان المسلمون الذين لم يذهبوا إلى الحج يتصورون شكل الكعبة المشرفة؟ ما الصورة التى رسموها لها، وكل ما يأتيهم عنها مجرد أوصاف فى كتب أو من خلال حكايات يسمعونها من حجيج ورحالة، تخضع لرؤية من يكتب وخيال من يحكى؟ ومتى ظهرت أول صورة فوتوغرافية للكعبة والمسجد النبوى؟ ومن هو الذى حمل الكاميرا الخاصة به، وبدأ يتجول فى مناسك الحج، ليسجلها بالصورة، حتى يرى الناس ما كانوا يسمعون عنه، ويرسمون له صورة من خيالهم، فى الغالب لم تكن تتوافق مع الواقع؟ لقد بدأت رحلة التصوير الفوتوغرافى فى العالم على يد الفرنسيين «نيسيفور نبيس» و«جاك داجير» فى العام ١٩٣٩، وفى العام ١٩٥٣ دخل الرحالة البريطانى الشهير «ريتشارد بيرتون» إلى مكة، كما فعل بعده عدد من الرحالة الأجانب، ولم يفكر أحد منهم أن يستخدم تقنية التصوير الحديثة ليسجل ما رآه، وذهب إلى هناك بهدف معرفته ونقله إلى العالم. وقبل أن تندهش إذ كيف دخل هؤلاء إلى الأراضى المقدسة فى فترة الحج وهم ليسوا على الإسلام، سأقول لك إنهم كانوا يتظاهرون بالإسلام، وكان دافعهم فى ذلك التعرف على طقوس واحدة من أهم شعائر المسلمين عن قرب. المفاجأة التى لم أعتبرها كذلك أبدًا عندما نعرف أن أول من فعلها كان مصريًا. فمن عند مصر يبدأ كل شىء. فكيف حدث هذا؟وكيف تم توثيق الأماكن المقدسة لأول مرة بالصور؟ ومَن قام بذلك؟ وكيف استطاع أن يسبق من اخترعوا التصوير إلى أن يكون هو أول من يلتقط صورًا للمسجد النبوى والكعبة المشرفة؟ الإجابة عن هذه الأسئلة تكشف لنا تاريخًا لم نلتفت إليه، وكثيرة هى وقائع التاريخ التى لا نلتفت إليها، فتتسرب من بين أيدينا. أول صورة للكعبة
محمد صادق باشا أول من قام بتصوير الكعبة والمسجد النبوى
بطل هذه القصة هو محمد صادق باشا الذى عاش بين عامى ١٨٢٢ و١٩٠٢. كان ضابطًا مهندسًا ومساح أراض فى الجيش المصرى. وقبل أن تسأل عن علاقة ضابط فى الجيش المصرى بالتصوير وبأول صورة للكعبة. سأخبرك بأن قصته التى يجب أن تروى تصلح لعمل درامى يسجل ويوثق فضلًا من أفضال مصر الكثيرة، التى ربما كان هناك الآن من يريد لنا أن ننساها. تقول المعلومات المتداولة عن محمد صادق إنه تلقى علومه الأساسية فى مدارس القاهرة، ثم انتقل إلى مدرسة «الخانكاه» الحربية، حيث شهد له معلموه بالنبوغ فى العلوم العسكرية، وهو ما جعله مؤهلًا للاختيار ليكون من بين أفراد بعثة الجيش الرابعة إلى فرنسا، وقد اختارهم سليمان باشا الفرنساوى قائد الجيش المصرى فى عهد محمد على فى العام ١٨٤٤. أثناء البعثة التحق محمد صادق بالمدرسة الحربية المصرية فى باريس وكان يشرف عليها «إسطفان بك»، وانتظم فى الدراسة ضمن أربعة أمراء كان منهم اثنان من أبناء محمد على وهما الأمير عبدالحليم والأمير حسن، واثنان من أبناء إبراهيم باشا وهما الخديو إسماعيل والأمير أحمد. بعد تخرجه فى المدرسة الحربية المصرية التحق بمدرسة متخصصة فى التطبيقات الحربية التى كانت تعرف بـ«البولتكنيك»، وفيها تعلم تقنيات التصوير الجغرافى ورسم الخرائط والزخارف. وعندما أنهى أعمال بعثته فى فرنسا عاد إلى القاهرة، وتم تعيينه مدرسًا للرسم فى المدرسة الحربية بالقلعة تحت نظارة رفاعة الطهطاوى. محمد صادق باشاصادق باشا كان مسئولًا عن مرافقة رحلات الحج والمحمل «كسوة الكعبة»من بين ما منحته الأقدار للباشا المصور، كان إسناد مرافقة رحلات الحج والمحمل «كسوة الكعبة» إليه، وكانت هذه المهمة سببًا فى أن يزور الأراضى المقدسة أربع مرات. كانت المرة الأولى فى العام ١٨٦٠ وهو العام الذى التقط فيه أول صورة للمسجد النبوى، وكانت رحلته الأخيرة فى العام ١٨٨٥. صادق باشا زار الأراضى المقدسة ٤ مرات أولها فى عام ١٨٦٠الكعبة المشرفةظل اسم محمد صادق فى حكم المجهول والمنسى فى كتب التاريخ حتى العام ١٩٩٩، فقد حدث ما أسهم فى إعادة بعث ذكره وذكر ما قام به من جديد. كانت الصدفة سببًا مباشرًا فيما جرى. فى هذا العام صدر كتاب «الرحلات الحجازية» للواء محمد صادق باشا، والذى أعده الباحث محمد همام فكرى، وهو الكتاب الذى ضم كل مؤلفات صادق التى أصدرها عن رحلاته إلى الحج وما جرى فيها. لكن كيف حدث هذا؟ يحكى لنا همام أنه وعندما كان يجلس فى مكتبة الشيخ حسن بن محمد بن على آل ثانى بالعاصمة القطرية الدوحة، وجد بالصدفة البحتة مجموعة من الكتيبات التى تصف فى مجملها طريق الحج إلى الأماكن المقدسة منذ أكثر من مائة عام. كان مؤلف هذه الكتيبات هو محمد صادق باشا الذى اتبع فيها منهجًا علميًا غاية فى الدقة والضبط، بما جعله منافسًا قويًا للرحالة والمستكشفين الغربيين فى دقة الوصف واتباع المنهج العلمى الصارم. تحمس همام لإعادة نشر هذه الكتيبات فى كتاب واحد، فقام بعنونتها وتنظيمها حسب سياقها الأصلى، وشرح معانى بعض المفردات التى اعتقد أنها تحتاج إلى توضيح، خاصة وأن بعضها من أصول غير عربية، وفى بعض الأحيان حسب اللهجة المصرية التى أصبحت مهجورة وغير متداولة. كان هناك دافع مهم لدى همام لإعادة نشر كتيبات صادق. فقد رأى أنها لم تحظ كمؤلفها بالشهرة الكافية التى تستحقها على الرغم من أهميتها، خاصة أنها ومنذ أن نُشرت للمرة الأولى خلال النصف الثانى من القرن التاسع عشر وبشكل محدود لم يتطرق إليها أحد إلا نادرًا رغم المعلومات القيمة التى تحتويها، فهى تشكل فى مجموعها رؤية شاهد عيان للواقع الجغرافى والاجتماعى للمناطق التى زارها محمد صادق فى الأراضى الحجازية أثناء تأدية فريضة الحج خلال النصف الثانى من القرن العشرين.الكتاب الذى لا يحظى بالشهرة الكافية هو الآخر يضم مؤلفات محمد صادق باشا، وهى تقدم روايته لرحلات الحج مرافقًا للمحمل المصرى، وقد نشرها على النحو التالى: الكتاب الأول: نبذة فى استكشاف طريق الأرض الحجازية من الوجه وينبع البحر إلى المدينة النبوية، وبيان خريطتها العسكرية لحضرة محمد صادق بك قائمقام أركان حرب، وطبع فى مطبعة عموم أركان الحرب بديوان الجهادية فى ١٢٩٤ هجرية بالقاهرة، وهو مكون من ٢٨ صفحة. الكتاب الثانى: مشعل المحمل.. وطُبع فى مطبعة وادى النيل فى ١٢٩٨ هجرية بالقاهرة، وهو عبارة عن رسالة فى سير الحاج المصرى برًا من يوم خروجه من مصر إلى يوم عودته مذكورًا بها كيفية الحج، وقد ذيّله بخريطة تظهر سير المحمل من القاهرة إلى مكة وإلى المدينة ثم القاهرة، مع بيان البلدان والمحطات والمحلات الشهيرة بالطريق، وهى فى مجملها عبارة عن تسجيل لرحلته الثانية التى قام بها فى عام ١٢٩٧هـ الموافق لسنة ١٨٨٠ ميلادية إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة، برفقة المحمل المصرى وقت أن كان أمينًا لصرة المحمل، ووصف فيه الطريق الذى يسلكه الحجاج بشبه جزيرة سيناء، والذى زينه بالصور الفوتوغرافية التى التقطها بنفسه. الكتاب الثالث: كوكب الحج فى سفر المحمل بحرًا وسيره برًا.. وهو ذيل لمشعل المحمل فى سفر الحج برًا، وصدر فى العام ١٣٠٣ هجرية، وطُبع بمطبعة بولاق بالقاهرة ويتكون من ٧٣ صفحة. الكتاب الرابع: دليل الحج للوارد إلى مكة والمدينة من كل فج، وطبع بمطبعة بولاق بالقاهرة فى العام ١٨٩٦ ويتكون من ١٥٢ صفحة، وفيه وصف للقبر النبوى الشريف وصفًا مميزًا، وقد زينه باثنتى عشرة لوحة وخريطة. تفاصيل حياة محمد صادق تقودنا إلى كيف أصبح أول من قام بتصوير الكعبة والمسجد النبوى، ففى سيرته التى سجلها همام فكرى توثيق لرحلته العلمية والعملية. فى العام ١٨٦٠ رافق محمد صادق الوالى محمد سعيد باشا فى رحلته إلى الأقطار الحجازية وزار المدينة المنورة، وخلال هذه الرحلة رسم خريطة من الوجه إلى المدينة المنورة، وهى الخريطة التى بيّن فيها معالم الطريق وكيفية المحطات ومحلات الزيارات. كانت هذه الزيارة مقدمة لرحلة علمية قام بها فى العام التالى ١٨٦١ إلى المدينة المنورة. ولأنها كانت رحلة علمية فقد قام خلالها بإعداد تقرير اشتمل على معلومات جغرافية مهمة مستفيدًا من بعض المعدات وأجهزة القياس التى كانت منها آلة تسمى «هكتومتر» تستخدم فى القياسات المترية «مائة متر»، وآلة «البوصلة» التى تستخدم فى تحديد الاتجاهات، بالإضافة إلى جهاز جديد لم يمض على اختراعه أكثر من عشرين عامًا، وكان هذا الجهاز الضخم عبارة عن آلة تصوير ضخمة «اميرا» تعمل بطريقة اللوحات المبتلة. خريطةلم يكن هدف هذه الرحلة دينيًا فى الغالب، وربما لم يكن علميًا أيضًا، فهناك من يشير إلى أن صادق قام بها لتحقيق بعض الأغراض العسكرية، وأهمها تحديد أوفق الأماكن لمبيت الجند وتعيين مواقع المحطات المختلفة على الطريق، وذلك بقصد إجراء مسح عسكرى للمنطقة الممتدة بين الوجه والمدينة المنورة. هذا الرأى فى الغالب هو الأقرب إلى الصواب. غلاف الكتابففى مقدمة كتابه «نبذة فى استكشاف طريق الأراضى الحجازية» الذى سجل فيه وقائع الرحلة- وكما يقول همام- يأتى كلامه بلغة تقارير العسكريين التى تتسم بالإيجاز الشديد وتهتم بالمعلومات البياينة والتفاصيل الدقيقة، كما يظهر فيه اعتناؤه وحرصه على ذكر التوقيت بالساعة والدقيقة. من ذلك مثلًا قوله: وفى الساعة الثالثة وعشر دقائق من يوم السبت ثانى وعشرين من الشهر، سرنا ودخلنا طريقًا أقل عرضه عشرون مترًا، وعلى مسيرة ثلاثة آلاف وخمسمائة متر صخرة حجر أحمر فى وسط الطريق تمر الجمال من طرفيها، ويضيق الطريق بسببها ثلاثة آلاف متر منها صخور وأحجار إلى ألف وخمسمائة متر، ثم يبدو طريق به أشجار محدقة وأحجار مفرقة متكونة من طبقات متفتتة من كثرة الحرارة والأمطار.فى العام 1880 عُيّن محمد صادق أمينًا للصرة المسئولة عن المحمل المصرى وفى موضع آخر يقول صادق: تركت ذكر الأدعية التى تقال فى الزيارات خوفًا من الإطالة، إذ المقصد هنا ذكر الاستكشافات العسكرية واللوازم السفرية وتشخيص الأماكن والمناخات وتعيين الطرق والمحطات. فى العام ١٨٨٠ عيّن محمد صادق أمينًا للصرة المسئولة عن المحمل المصرى. وفى هذا العام سافر إلى الأراضى الحجازية على رأس المحمل المصرى. وهذه المرة قدم وصفًا فى غاية الدقة لرحلة المحمل منذ بدء مسيرته يوم ٢٧ سبتمبر ١٨٨٠، ووصف كيفية الحج ومعالم الطريق إليه، وهو ما جاء فى كتابه «مشعل المحمل». كتاب مشعل المحمليتحدث صادق عما قام به فى كتابه. يقول: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، سيدنا محمد النبى الأمى وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد.. فيقول العبد الفقير إلى مولاه محمد صادق بيك ميرالاى أركان حرب المصرى، إنى قد استخرت الله فى أن أشرح ما شاهدته برًا فى طريق الحج الشريف، من كل مأمن أو مخيف، وما هو جار فى كيفية أداء هذه الفريضة الإسلامية، ليكون دليلًا مختصرًا مفيدًا للأمة المحمدية وخدمة لأبناء الوطن، ولم أذكر شيئًا بمجرد الظن، بل عولت فى الغالب على الاقتصار على ذكر الحسن، وسميته بـ«مشعل المحمل»، وعلى الله سبحانه وتعالى أتوكل، وإن وجد فيه شىء لا ينبغى أن يذكر فإنما ذكرته أداء لحق الوظيفة مع التلطيف ليكون قدوة ودليلًا لمن يتوظف من الآن، وليس الخبر كالعيان. فى العام ١٨٨٤ قام محمد صادق باشا بالرحلة الثالثة إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة، والتى بدأت فى ٣ سبتمبر ١٨٨٤. اتجه إلى السويس ومنها إلى جدة عبر البحر الأحمر، إلى أن رست الباخرة أمام بوغاز جدة، فضربت الموسيقى والطبول والمدافع فرحًا بالوصول. كان كتاب «دليل الحج» هو ثمرة الرحلة الثالثة، وحرص فيه صادق على وصف المنازل والأماكن، فلا يكاد من يقرأ ما كتبه فى ذلك الوقت يحتاج فى معرفتها عند مروره عليها إلى معرف ولا دليل. فى نهاية هذا الكتاب نقرأ كلمة لمصححه محمد الحسنى، الذى قدم نفسه بأنه «خادم تصحيح العلوم بدار الطباعة العامرة ببولاق مصر القاهرة الفقير إلى الله تعالى محمد الحسنى». يقول الحسنى: بحمد ذى الجلال والإكرام الذى فضل على سائر الأماكن بيته الحرام، وحث على أداء المناسك وأعد جزيل الأجر لمن حل بتلك المعاهد، وارتوى من زمزم والتزم الملتزم واستلم الحجر الأسود والركن والمقام والصلاة والسلام على سيدنا محمد أفضل من ثج وحج ولبى وصلى وصام وعلى آله الناسكين نسكه المقتفين أثره وأصحابه الكرام البررة. أما بعد.. فقد تم طبع هذا الكتاب الوافى البيان الصافى المورد والمنهل الحافل الكافل ببيان المنازل من مصر إلى مكة المشرفة والمدينة المنورة على أتم وجه، وأكمل السالك بقارئه من فجاج تلك الديار كل فج وهو المسمى «دليل الحج»، يصف لك هاتيك المنازل والأماكن، فلا تكاد تحتاج إلى معرفتها عند مرورك عليها إلى معرف ولا دليل، ويعرفك قبائل العرب الحجازية وفصائلها وأخلاق بعضها ومساكنها على وجه جميل مهذب المبانى، محرر المعانى، تأليف الملحوظ بعناية مولاه الخالق حضرة محمد باشا صادق على ذمة حضرته حفظه الله ومن كل سوء وقاه. الرحلة الرابعة والأخيرة كانت فى العام ١٨٨٥ وقام بها محمد صادق بعد أن تم تعيينه من قبل وزارة المالية لتسليم قمح الصدقة إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة بجدة. أعد صادق تقريرًا مفصلًا عن هذه المهمة. جانب من التصويريقول: توجهت إلى السويس فى ١٢ ربيع الأول سنة ١٣٠٣ ووصلت جدة فى ١٦ منه صباحًا، ومنها توجهت إلى مكة ثانى يوم على حمير الأجرة بدون لجام ولا ركاب كما هى العادة فى ظرف اثنتى عشرة ساعة، منها ساعة ونصف استراحة بالمحطات. التقى صادق بوالى الحجاز عثمان باشا نورى وأمير مكة الشريف عون الرفيق، وظل هناك حتى شهد غسل الكعبة ودعاء نصف شعبان وأيامًا فى شهر رمضان، ثم عاد إلى جدة لانتظار الوابور من بومباى بقمح الصدقة. ويحدثنا صادق باشا عن إجراءات تسليم وتسلم صدقة القمح. يقول: وجرى إعمال المعدل بها بواسطة القادوس المصرى بحضور قومسيون تشكل لذلك، يكون التسليم والتسلم للأهالى بموجبه، وتحررت الشروط اللازمة عن ذلك، وعند انتهاء التسليم أعطيت السند اللازم إلى وكيل المتعهد بالمقدار الوارد بالشونة كالأصول، وفى غرة مارس ١٨٨٦ ركبت وابور البحر ووصلت إلى السويس ثم وصلت إلى مصر ثانى يوم وقدمت أوراق مأموريتى إلى المالية حسب الأصول والطريقة الحسنة فى تسلم قمح صدقتى مكة والمدينة. حتى الآن نحن أمام محمد صادق المسئول المصرى فى مستويات ثلاثة. الأول عندما كان يعمل فى الجيش المصرى. والثانى عندما كان مسئولًا عن صرة المحمل. والثالث عندما عينته وزارة المالية لتسليم صدقة القمح. فأين نجد محمد صادق المصور، والذى أصبح بما فعله الرائد الأول فى تصوير الأماكن المقدسة فى مكة والمدينة؟هذه قصة يمكننا أن نبدأها من أولها، تحديدًا من اللحظة التى بدأ فيها محمد صادق تعلم التصوير. حدث هذا عندما كان صادق يدرس فى باريس ضمن البعثة المصرية، فهناك كان قد حدث شىء من التقدم فى مجال معالجة الصور الفوتوغرافية، وسرعان ما انتشر هذا الاختراع الذى يعتمد على ما سمى بالكاميرا. لعبت الأقدار دورًا كبيرًا فى وصل محمد صادق بهذه الآلة الجديدة العجيبة. محمد على باشا كان قد أدخل الكاميرا فى تحديثات معدات الجيش المصرى وتطويره وقد حرص صادق على إتقان استخدام الكاميراالخرائط فى عصر محمد على باشا كان محمد على باشا فى هذه الفترة قد قرر إدخال الكاميرا فى تحديثات معدات الجيش المصرى وتطويره، وقد حرص صادق على إتقان استخدام الكاميرا، وهو ما جعله بعد ذلك صاحب أول صور للمدينة المنورة وللكعبة المشرفة بعد ذلك. يمكننا أن نستعين هنا بكتاب بدر الحاج «المملكة العربية السعودية.. صور من الماضى ١٨٦١-١٩٣٩» وهو أول كتاب صدر باللغة العربية عن بدايات التصوير الشمسى فى نجد والحجاز، ويسلط فيه الضوء على أعمال رواد التصوير الشمسى العرب والأجانب الذين نشطوا فى المملكة العربية السعودية، وقد خصص فصله الثانى عن محمد صادق باشا وصوره التى التقطها فى مكة والمدينة. أعمال صادق باشا لاقت إقبالًا شديدًا ونُشرت فى شتى المجلات العربية والأوروبيةأعمال صادق باشا فى كتابه يقول بدر الحاج: كانت معظم مناطق شبه الجزيرة العربية مجهولة بالنسبة للمصورين الأجانب، باستثناء بعض الصور لمدن جدة وعدن ومسقط، والتى التقطت من قبل مصورين كانوا فى طريقهم إلى الهند، وعندما أصدر المهندس المصرى الميرالاى أركان حرب محمد صادق بك أول أعماله الفوتوغرافية عن مكة المكرمة والمدينة المنورة لاقت هذه الأعمال إقبالًا شديدًا، ونُشرت فى شتى المجلات العربية والأوروبية. كان محمد صادق حاضرًا، فرض نفسه على كل ما أقدم على التأريخ للمملكة العربية السعودية، وهو ما حدث فى كتاب وليام فيسى وجليان جرانت «المملكة العربية السعودية فى عيون أوائل المصورين»، وهو الكتاب الذى صدر بمناسبة المئوية السعودية، واستعرض مؤلفاه قصة ٨٠ صورة تم تصويرها من أوائل المصورين فى المملكة العربية السعودية خلال الفترة من ١٢٧٧ إلى ١٣٧٣ هجرية. فى هذا الكتاب نقرأ: يبدو أن أول صورة شمسية لسعودية اليوم جرى التقاطها قبل نحو مائة عام من ذلك فى عام ١٨٦١. ففى الواحد والعشرين من يناير نزل عقيد مصرى اسمه محمد صادق إلى بر ميناء الوجه الواقع على البحر الأحمر فى الساحل الشمالى للحجاز، كان الضابط النابه يحمل جهازًا نابهًا هو الآخر، كاميرا أو آلة تصوير شمسى التقط بها فيما زعم أنها أولى الصور الشمسية لمسجد الرسول، صلى الله عليه وسلم، فى المدينة المنورة، وفى عام ١٨٨٠ عاد فصور الحرم المكى الشريف ومواقع أخرى يتصل سبيلها بالحج. أول صورة شمسية لسعودية اليوم جرى التقاطها قبل نحو مائة عام من ذلك فى عام 1861صورة شمسية للسعوديةويذهب فيسى وجرانت إلى أنهما لا يعرفان عن حياة صادق إلا القليل باستثناء أن موهبته فى مجال التصوير الشمسى جرى اعتراف علنى بها حين منح شهادة تقدير وميدالية ذهبية فى مهرجانى البندقية لعامى ١٨٧٦ و١٨٨١، وفى العام ١٨٨٧ منحه الخديو ميدالية. صادق باشا: تمكنت سنة ١٨٨٠ من أخذ المناظر المقدسة بالبلدين المشرفتين بواسطة الآلة «الفوطوغرافية» حيث لم يسبق لأحد غيرى فعلهاعن ميدالية العام ١٨٨١ يقول صادق فى كتابه «دليل الحج»: وقد تيسر لى فى سفرى سنة ١٢٩٧ هجرية أعنى سنة ١٨٨٠ أخذ المناظر المقدسة بالبلدين المشرفتين بواسطة الآلة الفوطوغرافية، حيث لم يسبق لأحد غيرى، ومنحت بسبب ذلك ميدالية من الذهب ومن الدرجة الأولى بمعرض فيينا سنة ١٨٨١. وفى كتابه «مشعل المحمل» يتحدث صادق عن الصور التى التقطها للمدينة المنورة، وهى أول صور التقطت لها على الإطلاق. يقول: أخذت رسم المدينة المنورة بواسطة الآلة الشعاعية المسماة بالفوطوغرافيا مع قبة المقام الشريف جاعلًا نقطة منظر المدينة من فوق الطوبخانة حسبما استنسبته، لكى يحوز جزءًا من المناخة، وأما منظر القبة الشريفة فقد أخذته من داخل الحرم بالآلة المذكورة أيضًا، وما سبقنى أحد لأخذ هذه الرسومات بهذه الآلة أصلًا. وقد رصد بدر الحاج فى كتابه «صور من الماضى» التى قام صادق بالتقاطها. يقول بدر: استطاع صادق التقاط العديد من الصور الشمسية فى مكة المكرمة والمدينة المنورة ومنى، من بينها صور للأبنية من الداخل ولبعض الشخصيات، وقد أحصيناها فى كتابه «مشعل المحمل» حسب روايته كما يلى: أولًا: تيسر لى فى هذه الأيام أخذ رسم المسجد المكى والكعبة بالفوطوغرافيا، وأخذ رسم مسطحه على قدر الإمكان مع كثرة الزحام وعدم الفراغ. ثانيًا: وقد تيسر لى رسم مسطح الحرم بالبيان وأخذ رسم منظره من جملة جهات مع ما حوله من البيوت بواسطة آلة الفوطوغرافيا. ثالثًا: رسمت بالفوطوغرافيا صورة حضرة الشيخ عمر المذكور وأرسلتها إلى حضرته مع هذه الأبيات من قولى: قلبى يصور شخصكم فى كعبة… بنيت على الرحمات والأنوار فالقلب مشتعل بنار فراقكم… أو ليس كل مصور فى النار بيدى رسمت مثالكم فى رقعة… أملًا لقرب الود والتذكار. رابعًا: وقد رسمت منظر مقبرة مكة بالفوطوغرافيا. خامسًا: وقد تيسر لى رسم هذا المسجد وبقعة منى بالفوطوغرافيا، وفى مدة الليل أطلقت المدافع والشنكات. سادسًا: وقد تيسر لى أخذ خريطة الحرم النبوى السطحية بالضبط والتفصيل، وأخذت أيضًا رسم المدينة المنورة بالفوطوغرافيا مع قبة المقام الشريف والخمس منارات، وقد أخذت منظر القبة الشريفة من داخل الحرم، وأخذت صورة سعادة شيخ الحرم وبعض أغوات الحجرة الشريفة، وما سبقنى أحد لأخذ هذه الرسومات بالفوطوغرافيا أصلًا. خريطةويشير بدر الحاج إلى أن هناك صورًا التقطها محمد صادق واعتمد عليها مؤلفون آخرون، ومنها الصور التى استعملها صبحى صالح فى كتابه «الحج إلى مكة والمدينة»، وقد صدر فى القاهرة باللغة الفرنسية فى العام ١٨٩٤، وكان صادق لا يزال على قيد الحياة. وعند صبحى صالح لا بد أن نتوقف قليلًا، فهو أيضًا يعتبر من رواد تصوير الأماكن المقدسة. كان صبحى موظفًا فى نظارة الصحة المصرية، وقد شارك فى مواسم الحج خلال الأعوام من ١٨٨٨ وحتى ١٨٩١ بهذه الصفة، وكان هو الآخر يهوى التصوير، ومن بين ما قام بتصويره لقطات مختلفة للكعبة والمسجد النبوى، ولقطات من مدينة جدة للمحمل الذى كان ينقل كسوة الكعبة، وقد ضم مجموعة صوره فى كتابه، إلا أنها فيما يبدو لم تكن كافية فاستعان بصور من مجموعة محمد صادق وضمها إلى كتابه. ويسجل محمد لبيب البتنونى أنه وضع رسمًا نظريًا للحرم فى كتابه «الرحلة الحجازية» مستعينًا فى ذلك بكثير من الخرائط الجغرافية والرسوم النظرية التى وضعها بنفسه أو الصور الفوتوغرافية التى أخذت بمعرفة بعض من كانوا فى معية الجناب الخديو أو سواهم من أفاضل المصورين الذين سبق لهم السفر إلى تلكم الأرجاء من مصريين وغيرهم. قال البتنونى ذلك دون أن يشير إلى محمد صادق وصوره، لكن ولأنه كان هو من كان فى معية جناب الخديو، فإننا نفهم من سياق الكلام أنه كان يقصد محمد صادق ويؤكد أنه استعان بصوره. لكنه بعد قليل يعطى صادق حقه فى كتابه فيقول: وضعت للحرمين الشريفين رسمًا نظريًا معتمدًا على الأبعاد التى وضعها لها المرحوم محمد صادق باشا المصرى. الرحلة مع محمد صادق باشا طويلة، وأعتقد أنه من بين من نسيهم التاريخ أو تجاهلهم من يقومون على تدوينه. وتخيلوا مثلًا أنه قبل العام ١٩٩٧ لم يكن لمحمد صادق باشا ذكر إلا فى دوائر صغيرة وضيقة، وفى كتب عابرة يذكر فى هوامشها بشكل عابر أيضًا، ولم تكن مؤلفاته موجودة فى مصر لا فى دار الكتب ولا مكتبة وزارة الحربية. فى العام ١٩٩٧ توفرت لمكتبة الملك عبدالعزيز العامة فى الرياض مجموعة كاملة مما كتبه محمد صادق وما التقطه من صور فوتوغرافية لمكة المكرمة والمدينة المنورة، وما رسمه من خرائط تتميز بأنها كانت على درجة عالية من الدقة. أما كيف وصلت هذه المجموعة إلى مكتبة الملك عبدالعزيز؟فتشير تقارير صحفية إلى أن المكتبة ضمت فى هذه السنة إلى مجموعاتها المكتبة الخاصة للمستشرق الأمريكى «جورج رنتز»، وكانت هذه المكتبة تضم كل ما كتبه محمد صادق عن رحلاته الحجازية. ثم جرت الصدفة عندما عثر محمد همام فكرى على مؤلفات صادق فى الدوحة فى العام ١٩٩٩ فأعاد إليها الحياة مرة أخرى، ولولا هذه الجهود ما كنا عرفنا قصة هذا الباشا المصوراتى، الذى كان يقوم بوظيفته، لكنه منحنا ومنح العالم أول صور لمكة المكرمة والمدينة المنورة.