القضاء على “تيكي تاكا” وظهور طريقة لعب أقوى.. ما هي؟

لقد انقلبت الموازين التكتيكية في الدوري الإنجليزي رأسًا على عقب، الساحات الخضراء التي عُرفت بصخبها البدني وصراعها المحتدم صارت أشبه بمختبراتٍ لاختبار أقصى حدود الهجوم، ورياح التغيير جرفت معها ثقافة الحذر، لتحل محلها فلسفةٌ واحدةٌ تهتف: “المخاطرة أو الموت”، ففي الموسمَين الأخيرَين، شهدنا تحولًا جذريًا لم يُسجل من قبل: اندفاعٌ هجومي شامل حوَّل ملاعب إنجلترا إلى حلبات سباقٍ مفتوحة. 

المدربون، بغض النظر عن مراكز فرقهم، تخلّوا عن الخطوط الدفاعية المنخفضة، مفضلين الضغط العالي والكتلة المتقدمة، هذه الجرأة الجماعية فتحت الباب على مصراعيه للهجمات المرتدة، حيث قفزت التسديدات إلى 532 في شهر مارس الماضي، متجاوزةً رقم الموسم السابق كاملًا قبل نهاية الموسم بـ 91 مباراة كاملة، بينما سجلت الأهداف السريعة 88 هدفًا بزيادةٍ قياسية عن الموسم السابق أيضًا.

السرعة 

الآن أصبح بإمكان الدوري الإنجليزي انتزاع اللقب من الدوري الألماني: إحصائيًا، فهو الدوري الأكثر اعتمادًا على الهجمات المرتدة بين الدوريات الخمس الكبرى، ، حيث شهدت السنوات الثلاث الماضية ارتفاع عدد التسديدات من الهجمات المرتدة السريعة من 226 في موسم 2020-2021 إلى 392 في الموسم الماضي، وفي الموسمين الأخيرين تحديدًا، كان هناك تحول غير مسبوق، حيث تخلى غالبية المدربين عن النهج الدفاعي التقليدي بغض النظر عن مواقع فرقهم في الترتيب، ما أنتج مساحات شاسعة.  

تلك المساحات فتحت الأبواب أمام الهجمات المرتدة التي صارت سلاحاً رئيسياً في يد كل الفرق تقريبًا، ولم تعد حكراً على الفرق الصغيرة، والنتيجة، طفرة هائلة في تسجيل الأهداف السريعة، كما حولت فرق مثل ليفربول وأستون فيلا 33% من هجماتها إلى هجمات مرتدة خلال 10 ثوانٍ من استعادة الكرة، والمحصلة: أكثر من 80 هدفًا من الهجمات المرتدة خلال آخر موسمين، دون احتساب هذا الموسم. 

لم تكن هذه القفزة مجرد صدفة، بل كانت ثمرة طبيعية لتراجع الخطوط الدفاعية المنخفضة واختفاء ثقافة “الحفاظ على التعادل” التي طالما سيطرت على عقول المدربين، تزامن ذلك مع تحول جوهري في دور حراس المرمى، الذين صاروا نقاط انطلاق للهجمات أكثر من كونهم حماة للشباك، تمريراتهم الطويلة والدقيقة كانت تشق الميدان كسهام موجهة، إذ زادت التمريرات الطويلة الدقيقة من الحراس بنسبة 40%، بينما اختصرت المسافات تقنيًا بفضل اندفاع المهاجمين الدائم، وقبل أن يلتقط الخصم أنفاسه.

هذه الديناميكية الجديدة حوّلت الدوري إلى لوحة فنية متحركة، فلم يعد هناك مكان للجمود أو التكتيكات المرتبكة، وأصبحت كل لحظة ضياع للكرة صارت جرس إنذار، وتحول كل خطأ دفاعي إلى سيناريو مرعب، تلك الثورة الهجومية أعادت تعريف الروح الإنجليزية، فلم تعد القوة البدنية وحدها هي اللغة السائدة، بل صار الذكاء والسرعة هما العملة الجديدة، حيث  بلغ مستوى الهجمات المرتدة مستوى مختلفًا في موسم 2024-2025 مع 513 تسديدة و112 هدفًا من الهجمات المرتدة فقط لا غير. 

وقد استغل ليفربول تحت قيادة أرنى سلوت تلك الحالة باقتدار شديد، وأصبح الفريق الأفضل بلا منازع في تلك المواقف، مستغلاً سرعة محمد صلاح ولويس دياز، حيث سدد 52 تسديدة (22 منها لصلاح) وسجل 14 هدفًا من الهجمات المرتدة السريعة، وهو أفضل رقم لأي فريق في السنوات السبع الماضية في الدوري الإنجليزي، سلوت نفسه قد تحدث في بداية الموسم عن أهمية الفوز في المواجهات الثنائية نتيجة لإيقاع اللعب السريع. 

وبعد تسعة أشهر و379 مباراة من هذا التصريح، و1113 هدفًا، وهو ثاني أعلى رقم أهداف في موسم واحد بعد الموسم الماضي، توج ليفربول تحت قيادة سلوت باللقب بعدما أصبح أكثر الفرق فوزًا بالكرات الهوائية، ورغم صعوبة خلافة مدرب مثل كلوب، إلا أن أداء ليفربول تحت قيادة سلوت كان مستحقًا للإشادة أيضًا، حيث واجه الفريق تحديات في الضغط والاستحواذ في الفترات الأولى من الموسم، لكن تماسكه الدفاعي أمام فرق مثل أستون فيلا ومانشستر سيتي وتوتنهام أكد عودته لمصاف النخبة.

الجديد في عهد سلوت هو تحوُّل الفريق نحو هيمنة أكثر وعياً بالكرة، مع الحفاظ على قوته في الهجمات المرتدة، وقد ظهر ذلك عبر تعديلات ذكية أهمها كانت تقليص تحركات ترينت ألكسندر أرنولد في الوسط مقارنة بالموسم السابق، وتراجع أليكسيس ماك أليستر لمساعدة جرافينبيرش في بناء الهجمات،  واستخدام المهاجمين في تغطية أنصاف المسافات عند فقدان الكرة، وقد رصدت تلك الحالات الثلاث في معظم مباريات الموسم.  

التطور الأبرز كان في تطوير دور محمد صلاح كـ منفذ تكتيكي عند الضغط على الفريق، حيث استلم  الملك المصري 37% من التمريرات الطويلة المكتملة لحراس مرمى ليفربول هذا الموسم، وهي قفزة غير مسبوقة، وزيادة ملحوظة مقارنة بالمواسم الستة السابقة، مما حوّله إلى صمام أمان يحوّل الدفاع إلى هجوم في لمح البصر، ولذلك يمكن القول أن السمة الغالبة على هذا الموسم يمكن اختصارها في كلمة واحدة، ألا وهي “السرعة”، وبما أن السرعة موجودة، إذن فلابد أيضًا من توافر الحدة والكثافة البدنية. 

الكثافة البدنية

في تقرير لشركة “Skill Corner” المتخصصة في تحليل مقاييس الأداء من البيانات، قامت الشركة برصد الزيادة السنوية في مسافات الجري بالدوري الإنجليزي منذ موسم 2018-2019، حيث أشارت المقارنات بين موسم 2024-2025 والمواسم الستة السابقة إلى زيادة مسافة الجري الإجمالية بنسبة تزيد قليلاً عن 6%، مع ارتفاع سرعة عدْو اللاعبين بنسبة 19%، وزيادة المسافات المقطوعة بالعدو السريع بنسبة 22%، هذه الطفرات تعكس الأساس الحيوي لاستراتيجيات الضغط العالي التي سيطرت على الدوري.

هنا توجد مفارقة مثيرة، حيث انخفضت محاولات استعادة الكرة في الثلث الهجومي للمرة الأولى منذ أربع سنوات، تحديدًا أربع سنوات من التصاعد المتواصل في تلك الإحصائية، لتصل إلى أدنى مستوياتها، ويُعزى هذا التراجع إلى تبعات الكثافة البدنية العالية؛ إذ تحتاج الفرق الآن لفترات تعافي أطول، بعد السباقات العنيفة لمواجهة هجمات الخصوم، وقد كان فريق بورنموث بقيادة أندوني إيراولا هو الفريق الأكثر ضغطًا لاستعادة الكرة من الثلث الهجومي الأخير في المباراة الواحدة بمعدل (5.7) لكل 90 دقيقة.  

لم تعد القوة البدنية مجرد عضلات تتحرك في الفراغ، بل صارت وعيًا متجسدًا يسبق الكرة بخطوة على الأقل، كما أن الزيادة الحادة في سرعة العدْو وامتداد مسافاته (19% و22% على التوالي) لم تكن طفرة بيولوجية، بل هي تعبير عن تحول جوهري: الجسد الرياضي لم يعد أداة تنفيذ، بل أصبح نصًّا تكتيكيًا، كل متر زائد في الجري، وكل ثانية مختصرة في رد الفعل، صارف حرفًا في لغة جديدة تترجم الذكاء الذهني إلى حركة وحدة بدنية.

انخفاض ضغط الثلث الهجومي (رغم تصاعد القدرات البدنية) يكشف المفارقة الأعمق: الكثافة تُنتج فنًّا جديدًا عبر تدميرها القديم، فعندما تتحول فترات التعافي إلى مساحات تأمل إجباري، وعندما يصبح الانسحاب التكتيكي شرطًا للانقضاض، يصبح هناك معنىً مختلفًا لكلمة الهجوم، حتى أن الضغط العالي صار استراتيجية إيحاء تخدع الخصم بالفرصة ثم تفترسه في لحظة السكون، هذا التناقض هو إثبات مادي لفكرة الفيلسوف هيرقليطس القائلة بأن “الحرب هي أم كل شيء”، فمن صراع العضلات، قد يتولد التفكير.

السرعة، لم تُضِف دقائق للمباراة، بل سحبت الزمن من محوره، فاللاعبون اليوم يخوضون معركة وجودية ضد عقارب الساعة: استعادة الكرة في 10 ثوانٍ تصنع الفارق بين الخطر والفرصة، هذه “التسارعية” حوّلت المباراة إلى سلسلة من اللحظات المنفصلة، والتي تُختزل فيها الفلسفة كلها إلى سؤال واحد: ما هو وزن الثواني العشر التي تسبق التسديدة؟ 

هنا يصبح الزمن، كما قال برجسون، “مادة خام للإرادة”، الإرادة التي تمثلت جلية بعد ذلك في فكرة تقول: “إذا لم تتمكن من التغلب عليهم، فانضم لهم”.

حالات الانضمام 

بعد مواسم من تفوق أرسنال وأستون فيلا في استغلال الضربات الركنية، شهدت الساحات الإنجليزية تحولاً ملحوظاً في هذا النطاق، وبينما لا تزال الكرات القصيرة تهيمن على 45-50% من التمريرات الركنية منذ خمس سنوات، تراجعت الكرات المتأرجحة والمباشرة بشكل غير معهود، لافتةً إلى وجود انزياح فلسفي في التعامل مع الكرات الثابتة. 

في هذا المشهد الجديد، برز نوتنجهام فورست كحالة استثنائية وجميلة في نفس الوقت؛ إذ تفرد باعتماده على الركلات الخارجية أكثر من الداخلية، وحقق بذلك نتائج استثنائية، حيث كان بين أربعة فرق فقط تجاوزت عشرة أهداف من ركلات ركنية، كما احتل المركز الثاني في كفاءة تحويل الركلات (هدف كل 16 ركلة). 

في المجمل، سُجِّلت 2,341 ركلة ركنية داخلية، أي ما يزيد عن 60% من إجمالي الركلات الركنية، وهو إجمالي ونسبة أعلى من أي موسم منذ موسم 2018-2019، ولكن مع بعض الاختلافات اللافتة: ثلث الركلات من الجهة اليمنى استهدفت منطقة الست ياردات، ونصف الركلات من الجهة اليسرى سقطت في قبضة الحارس، هذه العودة للكرات الداخلية نحو المدافعين الطوال تُشير إلى إعادة إحياء التكتيكات التقليدية، على الرغم من أن وجود متخصصين في الكرات الثابتة كان من المفترض به أن يعزز الأداء الدفاعي. 

المفارقة تكمن في تراجع العائد الهجومي أيضًا: 135 هدفًا فقط من الركلات الركنية، وهو الرقم الأدنى في 4 مواسم، كما انخفضت جودة الفرص (xG) بنسبة 36%، ورغم ذلك زاد معدل التسجيل هدف كل 29 ركلة، بزيادة 5 أهداف عن الموسم الماضي، أما على الصعيد الدفاعي، فقد تحسنت الأداءات بشكل لافت: 

9 فرق تلقت 5 أهداف أو أقل مقارنة بفريقين فقط الموسم الماضي، أسباب هذا التحول قد تكون مرتبطة بغياب اللاعبين المميزين في الكرات الثابتة، ووجود إصابات محورية مثل بوكايو ساكا، ودي بروين، إضافة إلى تراجع أداء بعض صنّاع اللعب مثل وارد براوس، وتريبير، ورحيل بعض الخبرات مثل باسكال جروس.

وفي ضوء هذه التغيرات، يبدو واضحًا أن اللعبة لم تعد مجرد صراع بدني، بل أصبحت لوحة معقدة تجمع بين الفلسفة والذكاء الاستراتيجي، السرعة والكثافة البدنية لم تعودا مجرد أدوات للفوز، بل تحوّلتا إلى لغة جديدة تُعيد تعريف ملامح اللعبة، حيث تتشابك فيها الخطط مع الفلسفات، وتصبح الثواني أوزانًا ثقيلة في ميزان النصر والهزيمة.

هذه التحولات لا تعكس فقط تقدمًا تقنيًا أو رياضيًا، بل أيضًا تطورًا في الفكر الكروي الجماعي، حيث تسعى الفرق إلى دمج الفعالية مع الإبداع، والسرعة مع السيطرة.

ومع تصاعد أهمية التفاصيل الدقيقة، مثل أدوار حراس المرمى والتعامل مع الكرات الثابتة، بات من الضروري إعادة النظر في القيم التي تحكم اللعبة، ما كان يُعد في الماضي “ثابتًا” أصبح اليوم قابلًا للتغيير والتطوير، بهذا الشكل، فإن الموسم الحالي ليس مجرد مرحلة عابرة في تاريخ الدوري الإنجليزي، بل يبدو وكأنه أشبه بمحطة تحول كبرى تؤكد، أن كرة القدم ليست مجرد رياضة، بل هي انعكاس دائم لحركة المجتمع والتطورات الفكرية والثقافية.

close