يوم في حياة هاتف | صحيفة الوطن

يومياتي لا تختلف كثيراً عن يوميات طالب في الكلية العسكرية، ففي الساعة الخامسة والنصف صباحاً، يرن بداخلي ذلك المنبه الذي يهزني ويخرج أصواتاً من داخلي، إنه الاستيقاظ الإجباري، الغرض منه إيقاظ صاحبي، الذي لم يتركني حتى الثانية والنصف بعد منتصف الليل وما هي إلا لحظات، حتى امتدت يده لتلامس شاشتي، أسكت ذلك المنبه، لكنه لم يتركني، إنه يتصفح مواقع التواصل الاجتماعي في الظلام، وهو يفتح عينيه، ويغمضهما انزعاجاً من نور شاشتي.تركني ليذهب إلى الحمام وما هي إلا لحظات، حتى عاد والتقطني ليأخذني معه إلى تلك الجلسة التي يفترض أنها أكثر الجلسات خصوصية، لكنه مصر على تعذيبي، فهناك يقضي وقتاً أطول من الوقت الذي قضاه في الفراش، وهناك بدأ بمشاهدة مقاطع الفيديو على تيك توك، أحاول التخلص من هذا الموقف، ما هي الحجة؟ حتى البطارية فيها 80% فمن غير الممكن التظاهر بنقصانها، لكن في النهاية خرجنا، تركني دقائق قليلة ليغير ملابسه، لكنه سرعان ما عاد والتقطني ليأخذني هذه المرة إلى المطبخ، هناك وجدنا باقي أفراد العائلة، لعلها فرصة جيدة ليتركني، لكنه تجاهلهم ووضعني أمام طبقه، وبدأ بتصفح الأخبار الصباحية، فوجدت الفرصة واستدعيت له خبراً عن مخاطر إدمان استخدام الهواتف الذكية، لكنه مرر هذا الخبر سريعاً، وتجاوزه ليقرأ خبراً آخر بعنوان «لن تصدق ما حصل للراقصة صفصف – شاهد قبل الحذف» وجعلني أتسلق الروابط من رابط لآخر، وأواجه إعلانات غريبة ليصل إلى الخبر، في هذه الأثناء حاولت زوجته بدء الحديث معه، لكنه لا يرفع عينيه عني، ويرد عليها بكلمات مقتضبة، المهم أنهى فطوره، ووضعني في جيبه، وشعرت أنني سأحظى بفترة استراحة، لكنها مجرد لحظات حتى دخل سيارته، ووضعني على الحامل، وشغل خرائط غوغل فأعطيته الاتجاهات، لكنه في كل إشارة حمراء يتفقد الواتس أب ويكتب محادثاته، وفي كثير من الأحيان يواصل استخدامي ويقود سيارته، وأخيرا وصلنا إلى مقر العمل بعد أن نجونا من الحوادث المرورية التي كاد أن يتسبب بها، في مقر عمله دخل إلى قاعة الاجتماعات قلبني ووضعني على الطاولة، لكنها دقائق قليلة حتى شعرت باهتزاز بسيط في داخلي، فسحبني وقرأ الرسالة القصيرة التي وصلته، وبدلاً من إعادتي مقلوباً على وجهي، تظاهر بالانتباه إلى العرض التقديمي وأصابعه تتابع منشورات من يتابعهم على فيس بوك، وهنا أنقذني مدير الاجتماع عندما وجه له سؤالاً، فأخفاني تحت الطاولة، لكنه مع ذلك يتحقق سراً من الإشعارات.خرج من الاجتماع إلى الكافتيريا مع زملائه لشرب القهوة والحصول على استراحة سريعة، لكنه لم يتركني حيث فتح كاميرتي، وبدأ يلتقط صوراً لكوب القهوة، ويشاركها على حساباته، ويقضي وقتاً طويلاً في اختيار الفلتر المناسب، بعدها حان وقت الغداء، وقبل أن تصل الأطباق شغل إحدى الألعاب، وحاول تجاوز مرحلة صعبة، فارتفعت حرارتي وقبل أن أجد ما يخفضها اتصلت والدته، فرد عليها ومع ذلك يواصل اللعب، ويرد على والدته بنعم، ها، طيب، إلخ، المهم تناول غدائه سريعاً، وعاد إلي سريعاً، فشعرت بالإجهاد ووصلت طاقتي إلى 15% وكنت أتمنى أن تنفد لأستريح، وعندما وصلت إلى 1% وشعرت باقتراب الفرصة، أخرج من جيبه الشاحن المحمول، ووصلني به وواصل استخدامي، وعندما عاد إلى المنزل وصلني بالشاحن الرئيسي لدقائق، وبدأ بتصفح الفيس بوك وكتابة التعليقات الفلسفية العميقة التي لا هو يفهم معانيها ولا المتلقي، لكنها عميقة، أولاده حوله يحاولون جذب انتباهه، لكن تركيزه معي وهكذا حتى الثانية والنصف بعد منتصف الليل، لتبدأ بعدها دورة جديدة.أتمنى لو يفهم أنني مجرد آلة صممت لأجعل حياته أسهل، والحياة الحقيقية تنتظره خارج شاشتي، وأنت يا من تقرأ كلامي أي تشابه بيني وبين هاتفك هو تشابه مقصود.عميد كلية القانون – الجامعة الخليجية

close