التعليم في مناطق سيطرة الحوثيين: من المدرسة إلى المنصة الطائفية وسوق الجباية

منذ أن استولت جماعة الحوثي على مؤسسات الدولة في العاصمة صنعاء في سبتمبر 2014، شهد قطاع التعليم في اليمن تحوّلات خطيرة وغير مسبوقة، غيّرت من وظيفته الطبيعية كمحرّك للنهوض الوطني والتنمية الشاملة، إلى وسيلة تخدم مشروعًا أيديولوجيًا مغلقًا وأجندات مالية ضيقة.أصبح التعليم، الذي كان يمثل الأمل الوحيد لأجيال متعاقبة في الخروج من نفق الفقر والجهل، رهينة توجهات طائفية تفرضها الجماعة بقوة السلاح، وتُديره بعقلية السوق السوداء واحتكار الموارد، فيما يدفع التلاميذ وأولياء الأمور الثمن مضاعفًا: جهلًا وتهميشًا وفقرًا.التعليم خارج مساره الوطنيمنذ اللحظة الأولى للسيطرة على العاصمة صنعاء، سعت مليشيا الحوثي لإعادة تشكيل قطاع التعليم بما يتواءم مع رؤيتها العقائدية والسياسية. فتم استبعاد الكفاءات التربوية الوطنية، وتغيير القيادات التعليمية، وفرض مناهج دراسية جديدة، بل وإعادة تعريف مفاهيم التربية والمواطنة والانتماء الوطني.وبدل أن يكون التعليم وسيلة للارتقاء بالوعي الجمعي، تحول إلى أداة لصياغة الولاء الفردي للجماعة. المدارس، التي كانت منابر للعلم والمعرفة، تحوّلت إلى منصات لتلقين الفكر الحوثي، وتحفيظ شعارات الجماعة، وترويج رموزها العقائدية، في عملية ممنهجة لسلخ الجيل الناشئ عن قيم الجمهورية، والدولة المدنية، والتنوع الثقافي والاجتماعي في اليمن.الكتاب المدرسي: من حق عام إلى سلعة باهظةيبرز الكتاب المدرسي كأحد أبرز تجليات هذا الانحراف الخطير. فمع اقتراب العام الدراسي الجديد 2025–2026، تفاجأ المواطنون في مناطق سيطرة الحوثيين بإعلان رسمي عن أسعار خيالية للكتب الدراسية، بلغت 6200 ريال يمني للنسخة الواحدة، مقارنة بـ250 ريالًا فقط قبل العام 2014، أي بزيادة تجاوزت 2400%.هذا الارتفاع الصادم يتعارض بشكل مباشر مع نصوص الدستور والقوانين اليمنية التي تنص على مجانية التعليم الأساسي، وتُلزم الدولة بتوفير الكتب والمراجع الدراسية مجانًا أو بتكلفة رمزية، ما يكشف عن تعمّد واضح لتحويل التعليم إلى مصدر دخل ووسيلة استغلال اقتصادي، بدلًا من كونه خدمة عامة وحقًا دستوريًا مكفولًا للجميع.المطابع الحكومية: أدوات لخدمة المشروع الطائفيلم تتوقف الملشيا عند حد فرض الأسعار المرتفعة، بل ذهبت أبعد من ذلك في استغلال البنية التحتية التعليمية، وعلى رأسها “مؤسسة مطابع الكتاب المدرسي” الحكومية، التي خضعت بشكل كامل لسيطرة الجماعة، وخرجت عن مهمتها الأساسية في طباعة المناهج التعليمية الرسمية.أصبحت هذه المطابع أداة في يد المشروع الطائفي، يُخصص إنتاجها لطباعة شعارات مثل “الصرخة”، والكتب العقائدية التي تمجّد قادة الجماعة، وصور القتلى من عناصرها، وحتى كتيّبات المناسبات الطائفية مثل “عاشوراء” و”المولد النبوي”، فيما يتم تخصيص جزء من إنتاجها لطباعة الكتب المدرسية وتوزيعها عبر شبكات خاصة تابعة للجماعة، تبيعها بأسعار خيالية، بعيدًا عن رقابة الدولة أو إشراف الجهات التربوية.احتكار الطباعة والتوزيع… سوق سوداء للتعليموفق شهادات ميدانية من داخل صنعاء، بات الحصول على الكتاب المدرسي يخضع لنظام احتكاري معقّد، تديره الجماعة عبر وسطاء وتجار مرتبطين بها، يتم اختيارهم بعناية لضمان تدفق العائدات المالية إلى جيوب قياداتها، لا إلى ميزانية وزارة التربية أو تحسين جودة التعليم.يقول “علي” –وهو بائع كتب على أحد الأرصفة في شارع الزبيري بصنعاء– إن السوق السوداء للكتاب المدرسي صارت واقعة ملموسة، حيث تُوزع الكتب عبر تجار محددين فقط، ويوجّه السعر حسب تعليمات غير مكتوبة.”لم يعد الكتاب وسيلة للتعلّم، بل سلعة مضاربة. الطالب الفقير صار يفتش في القمامة بحثًا عن صفحات ممزقة، في حين يحصل أبناء الطبقة الموالية على نسخ فاخرة مطبوعة بتمويل خاص”، يضيف علي.تلاعب بالمحتوى… واغتيال للمناهج الوطنيةإلى جانب الجانب الاقتصادي، هناك وجه أكثر خطورة: المحتوى نفسه. فقد أقدمت الجماعة الحوثية على إعادة صياغة المناهج التعليمية وفق منظورها الطائفي، حيث حذفت رموز الجمهورية اليمنية، ومصطلحات مثل “الدولة المدنية”، و”الوحدة الوطنية”، واستبدلتها برموز مذهبية وأفكار تعبويّة تمجّد القتال والشهادة في سبيل الجماعة.بل ووصل الأمر إلى تحوير دروس التاريخ واللغة العربية والتربية الإسلامية لخدمة السردية الحوثية، في محاولة لفرض هوية ثقافية أحادية على بلد متنوّع في مكوناته ومعتقداته وانتماءاته.وفي هذا السياق، تحوّلت المدرسة من فضاء لبناء العقل النقدي والانفتاح المعرفي، إلى مصنع مغلق لإنتاج الولاء والطاعة.التدمير المنهجي للتعليم… آثار كارثية على المستقبلكل هذه الممارسات، من الاحتكار إلى الأدلجة، ليست عشوائية أو ناتجة عن ضعف إداري، بل تمثل سياسة ممنهجة تهدف إلى إعادة صياغة وعي الأجيال اليمنية المقبلة وفق نموذج فكري مغلق. وهذا يعني أن اليمن لا يواجه فقط خطر تدهور التعليم، بل يواجه خطر إنتاج جيل جديد يعاني من تجهيل متعمّد، واغتراب فكري، وتشوّه في الهوية والانتماء.تُقدّر تقارير محلية أن أكثر من 2.5 مليون طالب في مناطق سيطرة الحوثيين يدرسون اليوم في بيئة تعليمية غير آمنة، لا تحترم حقوقهم، ولا تحقّق معايير الجودة، في ظل تدنٍ حاد في رواتب المعلمين، ونقص في الوسائل التعليمية، وانعدام الرقابة التربوية المستقلة.ختامًاما يحدث للتعليم في مناطق الحوثيين ليس أزمة قطاع، بل أزمة هوية وطنية تُغتال يومًا بعد آخر. التعليم الذي يفترض أن يكون أداة تحرر وتنمية، صار أداة تقييد وتجهيل.وفي ظل استمرار هذه السياسات، فإن اليمن مهدد بخسارة أجياله القادمة لصالح مشروع ظلامي لا يؤمن بالتنوع، ولا يعترف بالعلم، ولا يحترم حق الإنسان في التعلم والمعرفة.إن إنقاذ التعليم في اليمن لم يعد قضية تربوية فحسب، بل معركة وجودية تتطلب موقفًا وطنيًا ودوليًا جادًا يعيد الاعتبار للمدرسة، ويحرر العقل اليمني من قبضة الجهل الممنهج.

close